الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .
أما بعد .
فهذه رسالة صغيرة تصف فيها حال الأمة الإسلامية في بقعة من بقاعها هي الأندلس وما مصير ذلك الشعب الذي لم يتعض يوماً ما ، مع كثرة الحوادث والهزائم التي تعرضت لها فأدت إلى نكبة الأمة ، وأنا أحاول في هذه الرسالة أن اسقط تلك الحوادث على واقعنا المعاصر وان كنت لا أشير إلى ذلك صراحة خلال عرضي لها .
حكم المسلمون الأندلس قرابة (800) سنة ( ) التي فتحت على يد الشاب المسلم طارق بن زياد الذي حقق مقولة قائده عقبة بن نافع الذي قال مقالته المشهورة مخاطباً البحر : لو كان خلفك أرض لخضتها بجوادي .
كيف لا وقد فعلها المسلمون من قبل حين عبروا إلى البحرين بالجياد وعبروا دجلة بالجياد كذلك بعد القادسية ، فعندما أراد الإسبان أن يسترجعوا الأندلس من يد المسلمين بعثوا الجواسيس يقتصون أحوال الشباب ، لماذا الشاب ياترى دون غيرهم من الناس ؟ لأن عمر أي امة يقاس بشبابها فانتصارها بالشباب ورقيها بالشباب وتخلفها من الشباب فإذا أراد عدو ما أن يهزم أمة ما ويمحقها ماذا يفعل يتوجه إلى الشباب ، فبعثوا الجواسيس إلى بلاد المسلمين فوجدوا الشباب مجتمعين يتدارسون كتاب الله ويتنافسون في حفظه وحفظ سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هذا يقول أنا أحفظ البخاري والآخر يقول أنا أحفظ مسلم وهذا يقول أنا أحفظ النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة ومسند الإمام احمد وموطأ الإمام مالك .
فعادوا إلى بلادهم وقالوا لقادتهم ليس لكم بهم طاقة ... دعوهم فترة من الزمن ... فعادوا مرة أخرى واخذوا يبحثون عن الشباب فوجدوهم يتسابقون على الخيل ويتدربون على الفروسية وإذا أرادوا أن يؤمروا أحداً قدموا الأتقى والأكثر حفظاً وخيراً فيهم ، فعادوا إلى بلادهم واخبروا قادتهم بما هو حال الشباب في بلاد الإسلام ، فقالوا دعوهم فترة أخرى ، فجاءوا مرة ثالثة واخذوا يبحثون عن تجمعات الشباب فوجدوا الشباب قد خرجوا من احد المساجد واجتمعوا على شاب جالس في الطريق وهو يبكي وهم يواسونه بأقوالهم ويتألمون لمصابه وكأنه مصاب بمصاب عظيم فسألوا الشباب عن حاله وما به ؟ قالوا اسألوه هو الذي يجيبكم . فقال الجواسيس : مابك ياابن الإسلام ماهو مصابك ؟ هل مات أبوك ؟ هل ماتت أمك ؟ هل ذهب مالك ؟ هل ضاع دينك ؟ هل احتل وطنك ؟ وهو يقول لا لا ثم قالوا مابك إذن .
فما تظنون أن يكون جواب الشاب المسلم الأندلسي ؟ قال بألم كبير حبيبتي هجرتني . يالها من مصيبة عظيمة ليس المصيبة العظيمة بهجر حبيبته إياه إنما المصيبة لاجتماع شباب الإسلام حوله ومواساتهم له دون أن يوجد من يرشده إلى الأمور العظام والى أمور تهم الأمة وماتعانيه من تكالب الأعداء عليه ومن الخطر الذي يتربص بها .
فعادوا أدراجهم إلى بلادهم وكلهم فرح وسرور وقالوا لقادتهم الآن حان زمن استرجاع الأرض من يد المسلمين ، وقصوا الخبر عليهم ، قال سادتهم : وماالضير في ذلك هذا حال الشباب عندنا أيضاً ، قالوا الضير في الشباب لأن الأعداء على الحدود يغيرون عليهم بين فترة وأخرى ويسقطون بعض الحصون وهم لايشعرون بالخطر الذي يداهمهم وما سيتعرضون له بل هم لايهتمون بما سيؤول إليه مصيرهم ومصير بلدهم ودينهم بل لا هم لديهم البتة فهذا الوقت الأفضل والأنسب لطردهم من الأندلس .
هذا حال صنف منهم .
أما الصنف الثاني :
فهو الصنف المخدوع الذي خدعته الأقوال ولم يعد يرى أفعال أعدائه به فحاله كحال ذاك العصفور .
كان صياد يصيد العصافير فصاد عصفورين وكسر جناحيهما وألقاهما في سلة كانت معه ، فجاءت عاصفة ترابية ودخل التراب في عيني الصياد وأخذت الدموع تنزل من عينيه ، فقال أحدهما للآخر : انظر إلى رقة قلب الصياد عندما رأى الدموع تنزل من عينيه فقال : ياأخي لا تنظر إلى الدموع ولكن انظر إلى يده ماذا صنعت ألست تقف على جثث إخوانك أليس جناحاك مكسورتين من فعل لك هذا ؟ أليس هو فعل يديه .
وكنت كذباح العصافير جاهداً
وعيناه من حزنٍ تهل وتدمع
فلا تنظري ليلى إلى الدمع وانظري إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع
أخي لا تخدعك الأقوال فانظر إلى الأفعال انظر إلى البنايات انظر إلى المعامل انظر إلى المستشفيات وأخيراً أنظر إلى المقابر وستعرف كم هي المصيبة عظيمة ، أنظر إلى عدد الأرامل والأيتام في بلادنا ستعرف الحقيقة المأساوية .
ولقد وصف أحد الشعراء ذلك بعد سنة من الاحتلال بقصيدته منبهاً إياناً أن لا ننخدع بالأقوال إنما ننظر إلى الأفعال إلى اليد ماذا تصنع :
زار الزعيم المؤتمن
بعض ولايات الوطن
وحين زار حينا قال لنا
هاتوا شكواكم بصدق في العلن
ولا تخافوا أحداً فقد مضى ذاك الزمن
فقال صاحبي حسن يا سيدي
أين الرغيف واللبن ؟
وأين تأمين السكن ؟
وأين توفير المهن ؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن
لم نر من ذلك شيئاً أبداً ياسيدي
قال الرئيس في حزن أحرق ربي جسدي
أكل هذا حاصل في بلدي
شكراً على صدقك في تنبيهنا
ياولدي . . سوف ترى الخير غداً
وبعد عام زارنا مرة ثانية
قال لنا هاتوا شكواكم في العلن ولا تخافوا أحداً
فقد مضى ذاك الزمن لم
يشتك الناس فقمت معلناً
أين الرغيف واللبن ؟
وأين تأمين السكن ؟
وأين توفير المهن ؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن
لم نر من ذلك شيئاً أبداً ياسيدي
ومعذرة ياسيدي وأين صاحبي حسن
الصنف الثالث :
وصنف آخر هو عاق لهذا الوطن :
فهذا الصنف لايهمه الدين ولا الأرض ولا العرض ، انما يبحث عن المال كيف يحصل عليه حتى وان تخلى عن جميع مبادئه قال الشاعر واصفاً حال هذا الصنف :
أغرى امرؤ غلاماً جاهلاً
بنقوده حتى ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يافتى
ولك الدراهم والجواهر والدرر
فمضى واغمد خنجراً في صدرها
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكن من فرط سرعته هوى
فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فهذا البلد كالأم المشفقة هذه ولكنه يعاني من جحود أبنائه فكم من بشر تؤوينه يابغداد ولكن ولائه إلى شعب غير شعبك والى بلد غير بلدك والى لسان غير لسانك ، فإذا ما مات لم يجد أرضاً تقبره غير أرضك ولا تربة تؤويه غير تربتك فأنت له كالأم المشفقة فما أحنك وما أشفقك يا بغداد حتى على أعدائك .
الصنف الرابع :
أما حال الفقهاء فهي تفرقه للصف والاشتغال بالجزئيات :-
ومن قام باسم الدين يدعو مفرقاً
فدعواه في أصل الديانة بهتان
فكان حال فقهاء الأمة في وادٍ والأمة في وادٍ آخر انزووا في مساجدهم يعلمون الناس الجدل ويشغلونهم بجزئيات الدين ، دخل الجندي الاسباني إلى مسجد غرناطة والفقيه الظاهري يناقش مع تلاميذه هل شحم وعظم الخنزير حرام أم حلال ، لان الله حرم اللحم ولم يحرم الجلد والعظم وغيرها .
فقال له أحد تلامذته ياشيخ هل دخول العلج الاسباني الكافر بحذائه وفرسه إلى مسجدنا هذا هل هو حلال أم حرام ؟ .
وحسبنا ماقاله داعية ملهم لشابين من شباب هذا العصر ـ الملتزم بالإسلام ـ عن ضيق الأفق وقصر النظر ، وقد رآهما يختلفان عن مقدار الممسوح من الرأس أهو شعرات أم الربع أم النصف أم تعميم الرأس كله ؟ .
ووصل الاختلاف بينهما إلى حد التراشق بالكلام بل إلى حد أن يقوم احدهما بضرب الآخر فخرج عليهما هذا الداعية فقال لهما : حافظوا على هذه الرؤوس على هذه الاكتناف أولاً ثم اختلفا في مقدار الممسوح منها ، إعلما أن هناك مؤامرة من قبل أعداء الله على قطعها وقطع غيرها .
فيجب على الأخ المسلم أن يحدد عدوه أولاً هل هم أبناء الإسلام ؟ أم الكفار أعداء الدين ؟ فلماذا تكون ساحة معركتك المسجد وعدوك المصلي ، أخرج إلى المجتمع واعمل على إصلاحه وتوجيهه ، وتحريره من الأفكار المنحرفة التي تهدم كيان ومقومات الأمة .
الصنف الخامس :
أما حال قادة الأندلس فهو الاستخفاف بالشريعة :
ليس إضاعة المال وتبذيره بل التجبر والتكبير به على عباد الله أيضاً... ففي المشرق قبل سقوط دولة بني أمية قام الوليد بن هشام بن عبد الملك ، وكان رجلاً سكيراً ، استفتح بالمصحف يوماً فوقع نظره على قوله تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وماهو بميتٍ ومن ورائهٍ عذاب غليظ ( ). قال مخاطباً القرآن ..
أتوعد كل جبار عنيد
هاأنا ذا جبار عنيد
فإذا لقيت ربك يوماً حشر
فقل مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده ( )، وأكلت الطير من رأسه ، جزاءاً لما فعل بالقرآن ونحن اليوم نرى أفراداً وجماعات من أبناء هذا البلد من يقوم بحرق المساجد وتمزيق المصاحف وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
الصنف السادس :
حال القادة (الاستعانة بالكافر)
وسميت تلك الفترة بالطوائف دول كل حاكم مدينة يظن انه أقوى الجميع فإذا تغلب عليه أخيه استعان بالكافر ضده وهكذا يأكل بعضهم بعضاً
الصنف السابع :
إضاعة المال ووضعه في غيره محله :
إضاعة وتبذير مال الأمة على ملذاتهم وملذات عوائلهم وكان الأجدر أن يصرف هذا المال على بناء الأوطان أو بناء الجيوش للدفاع عن البلد ، فهذا المعتمد بن عباد نظرت زوجته من شرفة القصر فرات امرأة فلاحة تدوس الطين بقدميها من اجل أن تصلح كوخها ، فقامت بالطلب من الأمير أن تقوم بدوس الطين بقدميها كما فعلت هذه المرأة الفلاحة ، ولكن المعتمد رفض ذلك كيف تدوس زوجته الطين بقدميها فقام بعمل طيناً لها ولكنه من المسك والعنبر والكافور فأخذت زوجته تدوسه بقدميها مع جواريها وهي تمرح وبذلك أفرغ خزينة بلاده من أجل أن يحقق رغبة زوجته بأن تدوس بقدميها وتصنع كما تصنع تلك الفلاحة فلما تقدم الأعداء لاحتلال بلاده لم يستطع الدفاع عنها لأنه انشغل بملذاته ، وملذات عائلته فاستنجد بأهل المغرب بالمرابطين بالقائد يوسف بن تافشين ، وقالت له بطانته: سوف يقومون بالاستيلاء على الحكم فجاءته بقية مروءة فقال مقالته المشهورة رعي الجمال خير من رعي الخنازير ) فسجن في المغرب توفي المعتمد في أغمات سنة ( 488هـ /1095م ) ـ رحمه الله ـ وفي النادر أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب ، بعد عظم سلطانه وجلالة شانه ، فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء ( )، كم تركوا من جناتٍ وعيون وزرع ومقام كريم ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوماً ءاخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ( ).
تحكموا فاستطالوا في تحكمهم
وعما قليل كان الأمر لم يكن
لو أنصفوا أُنصفوا لكن بغوا
فبقى عليهم الدهر بالأحزان والمحن
فأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن( )
الصنف الثامن :
عدم تحكيم شرع الله على مسلمي الأندلس :
فانعكس ذلك على الأمة الأندلسية فقد أصيبت بالتبلد وفقد الإحساس بالذات ، ومات ضميرها الروحي فلا أمر بمعروف تأمر به ، ولا نهي عن منكر تنهى عنه ، وأصابهم ما أصاب بني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون( ).
فان إي امة لا تعظم شرع الله أمراً ، ونهياً فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلا والله ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم) ( ).
الصنف التاسع :
عدم الدفاع عن الأوطان :
فهذا أبو عبدالله الصغير وهو يلبس أثواب الهزيمة ، وعلى وجهه العار ، والشنار ، قال للقائد القشتالي بصوت مسموع : هيا ياسيدي في هذه الساعة الطيبة تسلم قصوري باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها ، لفضائلهما وزلات المسلمين .
وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة الذي ندبه أبو عبدالله الصغير للقيام بهذه المهمة .
خرج أبو عبدالله وهو يحمل أمواله وأمتعته ، وحين بلغ الباب الذي سيغادر منه المدينة إلى الأبد ضج الحراس بالبكاء ، وتحرك الركب نحو منطقة البشرات وفي شعب من الشعاب المطلة على غرناطة وقف أبو عبدالله الصغير مودعاً المدينة وملكه فأجهش بالبكاء على هاتيك الربوع العزيزة ، فصاحت به أمه عائشة : ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال ( ).
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .
أما بعد .
فهذه رسالة صغيرة تصف فيها حال الأمة الإسلامية في بقعة من بقاعها هي الأندلس وما مصير ذلك الشعب الذي لم يتعض يوماً ما ، مع كثرة الحوادث والهزائم التي تعرضت لها فأدت إلى نكبة الأمة ، وأنا أحاول في هذه الرسالة أن اسقط تلك الحوادث على واقعنا المعاصر وان كنت لا أشير إلى ذلك صراحة خلال عرضي لها .
حكم المسلمون الأندلس قرابة (800) سنة ( ) التي فتحت على يد الشاب المسلم طارق بن زياد الذي حقق مقولة قائده عقبة بن نافع الذي قال مقالته المشهورة مخاطباً البحر : لو كان خلفك أرض لخضتها بجوادي .
كيف لا وقد فعلها المسلمون من قبل حين عبروا إلى البحرين بالجياد وعبروا دجلة بالجياد كذلك بعد القادسية ، فعندما أراد الإسبان أن يسترجعوا الأندلس من يد المسلمين بعثوا الجواسيس يقتصون أحوال الشباب ، لماذا الشاب ياترى دون غيرهم من الناس ؟ لأن عمر أي امة يقاس بشبابها فانتصارها بالشباب ورقيها بالشباب وتخلفها من الشباب فإذا أراد عدو ما أن يهزم أمة ما ويمحقها ماذا يفعل يتوجه إلى الشباب ، فبعثوا الجواسيس إلى بلاد المسلمين فوجدوا الشباب مجتمعين يتدارسون كتاب الله ويتنافسون في حفظه وحفظ سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هذا يقول أنا أحفظ البخاري والآخر يقول أنا أحفظ مسلم وهذا يقول أنا أحفظ النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة ومسند الإمام احمد وموطأ الإمام مالك .
فعادوا إلى بلادهم وقالوا لقادتهم ليس لكم بهم طاقة ... دعوهم فترة من الزمن ... فعادوا مرة أخرى واخذوا يبحثون عن الشباب فوجدوهم يتسابقون على الخيل ويتدربون على الفروسية وإذا أرادوا أن يؤمروا أحداً قدموا الأتقى والأكثر حفظاً وخيراً فيهم ، فعادوا إلى بلادهم واخبروا قادتهم بما هو حال الشباب في بلاد الإسلام ، فقالوا دعوهم فترة أخرى ، فجاءوا مرة ثالثة واخذوا يبحثون عن تجمعات الشباب فوجدوا الشباب قد خرجوا من احد المساجد واجتمعوا على شاب جالس في الطريق وهو يبكي وهم يواسونه بأقوالهم ويتألمون لمصابه وكأنه مصاب بمصاب عظيم فسألوا الشباب عن حاله وما به ؟ قالوا اسألوه هو الذي يجيبكم . فقال الجواسيس : مابك ياابن الإسلام ماهو مصابك ؟ هل مات أبوك ؟ هل ماتت أمك ؟ هل ذهب مالك ؟ هل ضاع دينك ؟ هل احتل وطنك ؟ وهو يقول لا لا ثم قالوا مابك إذن .
فما تظنون أن يكون جواب الشاب المسلم الأندلسي ؟ قال بألم كبير حبيبتي هجرتني . يالها من مصيبة عظيمة ليس المصيبة العظيمة بهجر حبيبته إياه إنما المصيبة لاجتماع شباب الإسلام حوله ومواساتهم له دون أن يوجد من يرشده إلى الأمور العظام والى أمور تهم الأمة وماتعانيه من تكالب الأعداء عليه ومن الخطر الذي يتربص بها .
فعادوا أدراجهم إلى بلادهم وكلهم فرح وسرور وقالوا لقادتهم الآن حان زمن استرجاع الأرض من يد المسلمين ، وقصوا الخبر عليهم ، قال سادتهم : وماالضير في ذلك هذا حال الشباب عندنا أيضاً ، قالوا الضير في الشباب لأن الأعداء على الحدود يغيرون عليهم بين فترة وأخرى ويسقطون بعض الحصون وهم لايشعرون بالخطر الذي يداهمهم وما سيتعرضون له بل هم لايهتمون بما سيؤول إليه مصيرهم ومصير بلدهم ودينهم بل لا هم لديهم البتة فهذا الوقت الأفضل والأنسب لطردهم من الأندلس .
هذا حال صنف منهم .
أما الصنف الثاني :
فهو الصنف المخدوع الذي خدعته الأقوال ولم يعد يرى أفعال أعدائه به فحاله كحال ذاك العصفور .
كان صياد يصيد العصافير فصاد عصفورين وكسر جناحيهما وألقاهما في سلة كانت معه ، فجاءت عاصفة ترابية ودخل التراب في عيني الصياد وأخذت الدموع تنزل من عينيه ، فقال أحدهما للآخر : انظر إلى رقة قلب الصياد عندما رأى الدموع تنزل من عينيه فقال : ياأخي لا تنظر إلى الدموع ولكن انظر إلى يده ماذا صنعت ألست تقف على جثث إخوانك أليس جناحاك مكسورتين من فعل لك هذا ؟ أليس هو فعل يديه .
وكنت كذباح العصافير جاهداً
وعيناه من حزنٍ تهل وتدمع
فلا تنظري ليلى إلى الدمع وانظري إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع
أخي لا تخدعك الأقوال فانظر إلى الأفعال انظر إلى البنايات انظر إلى المعامل انظر إلى المستشفيات وأخيراً أنظر إلى المقابر وستعرف كم هي المصيبة عظيمة ، أنظر إلى عدد الأرامل والأيتام في بلادنا ستعرف الحقيقة المأساوية .
ولقد وصف أحد الشعراء ذلك بعد سنة من الاحتلال بقصيدته منبهاً إياناً أن لا ننخدع بالأقوال إنما ننظر إلى الأفعال إلى اليد ماذا تصنع :
زار الزعيم المؤتمن
بعض ولايات الوطن
وحين زار حينا قال لنا
هاتوا شكواكم بصدق في العلن
ولا تخافوا أحداً فقد مضى ذاك الزمن
فقال صاحبي حسن يا سيدي
أين الرغيف واللبن ؟
وأين تأمين السكن ؟
وأين توفير المهن ؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن
لم نر من ذلك شيئاً أبداً ياسيدي
قال الرئيس في حزن أحرق ربي جسدي
أكل هذا حاصل في بلدي
شكراً على صدقك في تنبيهنا
ياولدي . . سوف ترى الخير غداً
وبعد عام زارنا مرة ثانية
قال لنا هاتوا شكواكم في العلن ولا تخافوا أحداً
فقد مضى ذاك الزمن لم
يشتك الناس فقمت معلناً
أين الرغيف واللبن ؟
وأين تأمين السكن ؟
وأين توفير المهن ؟
وأين من يوفر الدواء للفقير دونما ثمن
لم نر من ذلك شيئاً أبداً ياسيدي
ومعذرة ياسيدي وأين صاحبي حسن
الصنف الثالث :
وصنف آخر هو عاق لهذا الوطن :
فهذا الصنف لايهمه الدين ولا الأرض ولا العرض ، انما يبحث عن المال كيف يحصل عليه حتى وان تخلى عن جميع مبادئه قال الشاعر واصفاً حال هذا الصنف :
أغرى امرؤ غلاماً جاهلاً
بنقوده حتى ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يافتى
ولك الدراهم والجواهر والدرر
فمضى واغمد خنجراً في صدرها
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكن من فرط سرعته هوى
فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فهذا البلد كالأم المشفقة هذه ولكنه يعاني من جحود أبنائه فكم من بشر تؤوينه يابغداد ولكن ولائه إلى شعب غير شعبك والى بلد غير بلدك والى لسان غير لسانك ، فإذا ما مات لم يجد أرضاً تقبره غير أرضك ولا تربة تؤويه غير تربتك فأنت له كالأم المشفقة فما أحنك وما أشفقك يا بغداد حتى على أعدائك .
الصنف الرابع :
أما حال الفقهاء فهي تفرقه للصف والاشتغال بالجزئيات :-
ومن قام باسم الدين يدعو مفرقاً
فدعواه في أصل الديانة بهتان
فكان حال فقهاء الأمة في وادٍ والأمة في وادٍ آخر انزووا في مساجدهم يعلمون الناس الجدل ويشغلونهم بجزئيات الدين ، دخل الجندي الاسباني إلى مسجد غرناطة والفقيه الظاهري يناقش مع تلاميذه هل شحم وعظم الخنزير حرام أم حلال ، لان الله حرم اللحم ولم يحرم الجلد والعظم وغيرها .
فقال له أحد تلامذته ياشيخ هل دخول العلج الاسباني الكافر بحذائه وفرسه إلى مسجدنا هذا هل هو حلال أم حرام ؟ .
وحسبنا ماقاله داعية ملهم لشابين من شباب هذا العصر ـ الملتزم بالإسلام ـ عن ضيق الأفق وقصر النظر ، وقد رآهما يختلفان عن مقدار الممسوح من الرأس أهو شعرات أم الربع أم النصف أم تعميم الرأس كله ؟ .
ووصل الاختلاف بينهما إلى حد التراشق بالكلام بل إلى حد أن يقوم احدهما بضرب الآخر فخرج عليهما هذا الداعية فقال لهما : حافظوا على هذه الرؤوس على هذه الاكتناف أولاً ثم اختلفا في مقدار الممسوح منها ، إعلما أن هناك مؤامرة من قبل أعداء الله على قطعها وقطع غيرها .
فيجب على الأخ المسلم أن يحدد عدوه أولاً هل هم أبناء الإسلام ؟ أم الكفار أعداء الدين ؟ فلماذا تكون ساحة معركتك المسجد وعدوك المصلي ، أخرج إلى المجتمع واعمل على إصلاحه وتوجيهه ، وتحريره من الأفكار المنحرفة التي تهدم كيان ومقومات الأمة .
الصنف الخامس :
أما حال قادة الأندلس فهو الاستخفاف بالشريعة :
ليس إضاعة المال وتبذيره بل التجبر والتكبير به على عباد الله أيضاً... ففي المشرق قبل سقوط دولة بني أمية قام الوليد بن هشام بن عبد الملك ، وكان رجلاً سكيراً ، استفتح بالمصحف يوماً فوقع نظره على قوله تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وماهو بميتٍ ومن ورائهٍ عذاب غليظ ( ). قال مخاطباً القرآن ..
أتوعد كل جبار عنيد
هاأنا ذا جبار عنيد
فإذا لقيت ربك يوماً حشر
فقل مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده ( )، وأكلت الطير من رأسه ، جزاءاً لما فعل بالقرآن ونحن اليوم نرى أفراداً وجماعات من أبناء هذا البلد من يقوم بحرق المساجد وتمزيق المصاحف وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
الصنف السادس :
حال القادة (الاستعانة بالكافر)
وسميت تلك الفترة بالطوائف دول كل حاكم مدينة يظن انه أقوى الجميع فإذا تغلب عليه أخيه استعان بالكافر ضده وهكذا يأكل بعضهم بعضاً
الصنف السابع :
إضاعة المال ووضعه في غيره محله :
إضاعة وتبذير مال الأمة على ملذاتهم وملذات عوائلهم وكان الأجدر أن يصرف هذا المال على بناء الأوطان أو بناء الجيوش للدفاع عن البلد ، فهذا المعتمد بن عباد نظرت زوجته من شرفة القصر فرات امرأة فلاحة تدوس الطين بقدميها من اجل أن تصلح كوخها ، فقامت بالطلب من الأمير أن تقوم بدوس الطين بقدميها كما فعلت هذه المرأة الفلاحة ، ولكن المعتمد رفض ذلك كيف تدوس زوجته الطين بقدميها فقام بعمل طيناً لها ولكنه من المسك والعنبر والكافور فأخذت زوجته تدوسه بقدميها مع جواريها وهي تمرح وبذلك أفرغ خزينة بلاده من أجل أن يحقق رغبة زوجته بأن تدوس بقدميها وتصنع كما تصنع تلك الفلاحة فلما تقدم الأعداء لاحتلال بلاده لم يستطع الدفاع عنها لأنه انشغل بملذاته ، وملذات عائلته فاستنجد بأهل المغرب بالمرابطين بالقائد يوسف بن تافشين ، وقالت له بطانته: سوف يقومون بالاستيلاء على الحكم فجاءته بقية مروءة فقال مقالته المشهورة رعي الجمال خير من رعي الخنازير ) فسجن في المغرب توفي المعتمد في أغمات سنة ( 488هـ /1095م ) ـ رحمه الله ـ وفي النادر أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب ، بعد عظم سلطانه وجلالة شانه ، فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء ( )، كم تركوا من جناتٍ وعيون وزرع ومقام كريم ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوماً ءاخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ( ).
تحكموا فاستطالوا في تحكمهم
وعما قليل كان الأمر لم يكن
لو أنصفوا أُنصفوا لكن بغوا
فبقى عليهم الدهر بالأحزان والمحن
فأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن( )
الصنف الثامن :
عدم تحكيم شرع الله على مسلمي الأندلس :
فانعكس ذلك على الأمة الأندلسية فقد أصيبت بالتبلد وفقد الإحساس بالذات ، ومات ضميرها الروحي فلا أمر بمعروف تأمر به ، ولا نهي عن منكر تنهى عنه ، وأصابهم ما أصاب بني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون( ).
فان إي امة لا تعظم شرع الله أمراً ، ونهياً فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلا والله ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم) ( ).
الصنف التاسع :
عدم الدفاع عن الأوطان :
فهذا أبو عبدالله الصغير وهو يلبس أثواب الهزيمة ، وعلى وجهه العار ، والشنار ، قال للقائد القشتالي بصوت مسموع : هيا ياسيدي في هذه الساعة الطيبة تسلم قصوري باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها ، لفضائلهما وزلات المسلمين .
وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة الذي ندبه أبو عبدالله الصغير للقيام بهذه المهمة .
خرج أبو عبدالله وهو يحمل أمواله وأمتعته ، وحين بلغ الباب الذي سيغادر منه المدينة إلى الأبد ضج الحراس بالبكاء ، وتحرك الركب نحو منطقة البشرات وفي شعب من الشعاب المطلة على غرناطة وقف أبو عبدالله الصغير مودعاً المدينة وملكه فأجهش بالبكاء على هاتيك الربوع العزيزة ، فصاحت به أمه عائشة : ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال ( ).