دور الأخلاق في بناء الحضارات الإنسانيّة
يعتقد البعض من غير المطّلعين، أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثل أمراً خاصاً في حدود الحياة الشّخصية للإنسان، وأنّها مسائل مقدّسة معنويّة، لا تفيد إلاّ في الحياة الاُخرويّة، وهو اشتباه محض، لأن أكثر المسائل الاخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الإجتماعيّة للإنسان، سواء كانت ماديّة أم معنويّة، فالمجتمع البشري بلا أخلاق، سينقلب إلى حديقةِ حيوانات لا يُجدي معها إلاّ الأقفاص، لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة، وستُهدر فيها الطّاقات، وتحطّم فيها الإستعدادات، وسيكون الأمان والحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء، وستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي.
وعندما نتحرى التأريخ، نرى أنّ كثيراً من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار، وتمزقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لإنحرافاتهم الأخلاقيّة.
وكم رأينا في التأريخ حُكّاماً، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمة وويلات، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. وكم يوجد من اُمراء فاسدين وقيادات عسكريّة متعنّتة، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح، بسبب استبدادهم بالرّأي وعدم المشورة.
والحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان، لا لَطافةَ ولا شفافيّة لها بدون الأخلاق. ولن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها، ولكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الإجتماعيّة للبشر، فما لم يتمسك أفراد المجتمع بالأخلاق، فستكون نهاية المجتمع أليمة وموحشة جدّاً.
ولرب قائل يقول: إنّ السّعادة والتكامل في واقع المجتمع البشري، يمكن أن يتحقّقا في ظِلِّ العمل بالقوانين والأحكام الصّحيحة، من دون الإعتماد على مبادىء الأخلاق في الفرد.
ونقول له: إنّ العمل بالقوانين، من دون وجود قاعدة متماسكة من القِيم الأخلاقيّة لدى الفرد غير ممكن، لأنّه إذا لم يتوفر الدّاعي الذّاتي للإنسان، فالسّعي الظّاهري لن يُجدي نفعاً.
فالقوّة والضّغط من أسوأ الأدوات لتنفيذ القوانين والضّوابط، ولا يصحّ إستعمالها إلاّ في الضّرورات، وبالعكس فإنّ الإيمان والأخلاق، يُعتبران من أفضل الأساليب لتنفيذ أيّة قرارات.
بعد هذه الإشارة، نعود للآيات القرآنيّة الناظّرة إلى هذه المسألة المهمّة، لنستوحي منها بعض المعاني في هذا المجال:
1- ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَآتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَاَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
2- ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ إِدْفَعْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ فَاِذَا الّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقّاها إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم﴾(فصّلت:34-35).
3- ﴿فَبِما رَحْمة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159).
4- ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُون﴾(سبأ:34).
5- ﴿وَابْتَغِ فِيما آتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قالَ إِنَّما اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ﴾(القصص:77-78).
6- ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوال وَبَنِْينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهار﴾(نوح:10-12).
7- ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾(المائدة:66).
8- ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُون﴾(النحل:97).
9- ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾(طه:124).
10- ﴿وَلا تَنازَعُؤا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾(الأنفال:46).
تفسير وإستنتاج
"الآية الاولى": تكلّمت عن الرّابطة بين بركات الأرض والسّماء وبين التّقوى، حيث يُصرِّح فيها بأنّ التّقوى، سبب البركات التي تنزل من السّماء على الناس، وبالعكس فإنّ عدم التّقوى والتّكذيب بآيات الله، سبب لنزول العذاب: ﴿وَلَوْ أَنَّ اَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَآلاَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَآَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
فبركات الأرض والسّماء لها معنى وسيع جداً،بحيث يشمل: نزول الأمطار، وإنبات النّباتات، وكثرة الخيرات، وكثرة القوى البشريّة.
"البركة": أصلها الثّبات والإستقرار، وبعدها اُطلقت على كلّ نِعمة وموهبة تبقى ثابتةً لا تتغير، ولذلك فإنّ الموجودات غير المبارك فيها، تكون غير ثابتة وتفنى بسرعة.
إن الكثير من الاُمم لديها إمكاناتٌ ماديّةٌ كبيرةٌ، ومعادن ومصادر للثروة تحت الأرض، وكذلك لديها أنواع الصّناعات، ولكن بسبب أعمالهم السيئة والتي لها علاقة مُباشرة بإنحطاطهم الأخلاقي، فإنّ تلك المواهب والمنن الإلهيّة، ستتعرض للإهتزاز وتفقد البركة في مضمونها الإجتماعي، حيث تُستعمل تلك النعم الإلهيّة في الغالب، لتعجيل فنائهم وزوال نعيمهم من موقع النقمة الإلهيّة.
وقد صرّح القرآن الكريم بذلك، حيث قال: ﴿وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ﴾(التوبة:85)
نعم إنّ هذه النِّعم إذا إقترنت بفساد الأخلاق، فستكون سبباً لعذاب الدنيا وخُسران السّعادة في الآخرة!.
وبعبارة اُخرى، إذا إقترنت هذه المواهب الإلهيّة، بالإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية، فستجلب الرّفاه والسعادة والعمران للمجتمع البشرى، وهذا هو الشّيء الذي تُشير إليه الآية الآنفة الذّكر.
وبالعكس فيما لوسلك الإنسان معها، اُسلوب البُخل والظُّلم والإستبداد، وسوء الخُلق وإتّباع الأهواء، فستكون من وسائل الإنحطاط والفساد والإنحراف!.
"الآية الثانية": تتحرك في إطار بيان طريقة مُهمّة ومُؤثرة جداً لدفع العداوات والضّغائن، وتوضّح أيضاً دور الأخلاق في إزالتها:﴿إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَاِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِْيمٌ﴾
ويضيف قائلا: إنّ هذا الأمر، أي سِعة الصّدر، أمرٌ لا يقدر عليه كلّ أحد، بل يختصّ بها من اُوتي حظّاً عظيماً من الإيمان والتّقوى، فيقول: ﴿وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُوحَظٍّ عَظِيْم﴾.
إنّ إحدى المشاكل الكبيرة للمجتمعات البشريّة، هي تراكم الحقد والكراهيّة في النفوس، وفي حال وصولها الذّروة، فإنّ من شأنها أن تفضي إلى إشعال نيران الحروب، التي تحرق معها كلّ شيء وتحوله إلى رماد.
ومع تحرك الإنسان من موقع: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فستذوب الأحقاد والكراهيّة كالثّلج في الصّيف، وستتخلص المجتمعات البشريّة من خطر الحروب، وتقلّ الجنايات، وتنفتح البشريّة على أجواء المحبّة والتعاون والتّكامل الإجتماعي.
ومن الطبيعي أنّ الخُشونة إذا ما قابلتها الخُشونة، والسّيئة دُفعت بالسّيئة، فستطّرد هذه السّلبيات وتتوسع يوماً بعد يوم، وبالتّالي ستجر الويلات والمآسي على المجتمع البشري.
ومن البديهي أنّ: (مسألة إدفع بالّتي هي أحسن)، لها شروطٌ وحدودٌ وإستثناءاتٌ.
"الآية الثالثة": تحدثت عن تأثير حُسن الخُلق في جلب وجذب الناس، وبيّنت أنّ المدير المتخلق بالأخلاق الإلهيّة إلى أيّ حدّ يكون موفقاً في عمله، وكيف يجمع القلوب المُتنافرة ويوحِّدها التوحيد الذي يصعد بها إلى الرّقي والكمال الإجتماعي:
﴿فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَْنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَآعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.
ففي هذه الآية، نرى التّأثير العميق لحسن الأخلاق في تقدّم أمر الإدارة، وجلب وجذب القلوب ووحدة الصّفوف، والنّجاح على مُستوى التّفاعل الإجتماعي لأفراد المجتمع فأثر حسن الأخلاق لا يتحدّد بحدود البُعد الإلهي والمعنوي فقط، بل له آثاره الوسيعة في حياة الإنسان الماديّة.
والأوامر الثّلاثة التي جاءت في ذيل الآية، يعني مسألة: "العَفوعن الخَطأ" و"طلب المغفرةِ من الباري تعالى" و"المشورة في الاُمور"، هي أيضاً تصبّ في دائرة تفعيل عناصر الأخلاق في النّفس، لأنّ تلك الأخلاق النّابعة من الرّحمة والتّواضع، تكون سبباً للعفو والإستغفار وتصحيح الأخطاء السّابقة، وإحترام شخصيّة ووجود الإنسان أيضاً.
"الآية الرابعة": تبيّن الآثار السّلبية لبعض الأخلاق السيئة، حيث يقف في مقابل الأنبياء الإلهيين، جماعة من المترفين، وهم المُنعّمين الذين ملأ الكِبر والأنانيّة أنفسهم ووجودهم: ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِْير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾.
وبعدها يعقّب قائلاً: أنّ الغُرور وصل بهم إلى درجة كبيرة، فقالوا: ﴿وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾
فمثل هذه الأخلاق القبيحة، تُعدّ سبباً في التّصدي للإصلاح الإجتماعي، على مُستوى قتل رجال الحقّ، وخنق أصوات طلاّب الحقيقة، وبالتالي زرع بذور الفساد والظّلم والطغيان في المجتمعات، وهنا يتّضح نموذج آخر من آثار الأخلاق السّيئة في المجتمعات البشريّة.
والعجيب في الأمر، أنّ روحيّة الإستكبار النّاشئة من الرّفاه المادي وسبوغ النّعمة، هي السّبب في التّورط في مُستنقع الخطيئة وإرتكاب أخطاء فاضحة جدّاً، فاعتقدوا بأنّ وفور النّعمة وكثرتها، هو دليل للقرب الإلهي، وقالوا: لولا قُربنا من الله تعالى لما آتانا تلك النّعم!؟. وبذلك أنكروا جميع القيم الأخلاقيّة والمعنويّة، ولكنّ القرآن الكريم في الآية التاليّة يُفنّد منطقهم الواهي، ويجعل المعيار هو الإيمان والعمل الصّالح.
فلم يكن موقف المترفين المشركين من قُريش بالوحيد في عصرهم، فهذا هو موقف جميع المترفين في الأقوام السّالفة مع الأنبياء والمصلحين.
"الآية الخامسة": تنظر لوجه آخر من المسألة، وتبيّن قصّة "قارون" الغني المغرور والأناني وهو من بني إسرائيل.
فعندما نصحه أهل العلم والمعرفة من قومه، وقالوا له: ﴿وَآبْتَغِ فِيما أتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ وقال وبكلّ تكبّر وغُرور: ﴿قالَ إِنَّما اُوتيْتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدِي﴾.
يعني أنّ الله لا دخل له في وفور النّعمة عليّ، ولكنّ علمي ودرايتي بالاُمور هي السّبب في ذلك وهكذا أودى به الكِبر والغُرور إلى السّقوط في وادي إنكار الآيات الإلهيّة، وبالتّالي التّحرك من موقع التعاون مع أعداء الحقّ والعدالة، وفي لحظة وحادثة عجيبة، خُسِفَت به وَبِأمواله الأرض.
وهنا نرى كيف أنّ الرّذائل الأخلاقيّة، بإمكانها تغيير وجوه الأشخاص والمجتمعات، ومنعهم من الوصول إلى الخير والسّعادة.
والطّريف في الأمر، أنّنا نقرأ في الآيات التي قبلها، بأنّ قومه قالوا له: ﴿إِذْ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَرِحينَ﴾..
ومن البديهي أنّ الإسلام لا يعارض الفرح والسّرور، ولكنّ المقصود هنا الفرح النّاشيء من الغَفلة والغرور ونِسيان الله تعالى، والمقترن بالظّلم والفساد ومُمارسة الخطيئة والذي بدوره يجرّ الإنسان لِلعربدة والجُموح والفساد، وكلّ ذلك منشؤه الصّفات القبيحة التي تضرب بجرانها في القلب.
"الآية السادسة": نقرأ فيها شكوى النّبي نوح عليه السلام إلى الباري تعالى، فنرى في طيّاتها معان تُشير إلى تأثير أعمال الإنسان، والأخلاق التي تدعم تلك الأعمال، في الحياة الفرديّة والإجتماعيّة للإنسان، فيقول: ﴿فَقُلْت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدْراراً * وَيُمْدِدكُم بِأَمْوال وَبَنَينَ * وَيَجْعَلْ لَكُم جَنَّات وَيَجعَلْ لَكُم أَنهاراً﴾.
وفي الإستمرار في قراءة تلك الآيات، نرى عصيانهم وتمرّدهم على الأوامر الإلهيّة، وكذلك تبيّن الآيات صفاتهم القبيحة، والتي هي بمثابة المنَبع الآسن الذي يمدهم بالذّنوب.
ويمكن القول أنّ ما ذُكر آنفاً، هو العلاقة المعنويّة والإلهيّة بين الإستغفار وترك الذنوب، وبين زيادة النعم، ولا يوجد منع من سراية هذه العلاقة لتشمل البُعد الظّاهري والبُعد المعنوي، لذلك نقرأ في آية اُخرى من القرآن الكريم: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيدِي النّاسِ﴾(الروم:41).
وقد ورد هذا المعنى في سورة هود بشكل آخر على لسان الرسول صلى الله عليه واله وسلم، في خطابه لُمشركي مكّة: ﴿وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعُكُم مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَل مُسَمّىً﴾(هود:3).
لا شك أنّ الّتمتع "بالمتاع الحسن"، لأجل مُسمّى، هو إشارةٌ إلى المواهب الماديّة الدنيويّة، فهي رهينة الإستغفار والتّوبة من الذّنب، والعودة إلى الباري تعالى، والتّخلق بالأخلاق الحسنة.
ولا شكّ أنّ الصّفات القبيحة هي الأساس والأصل لأنواع الذّنوب، والذّنوب بدورها سبب لنشر الفساد في المجتمع وتفكيك لِعُرى الوحدة، وأواصر الصّداقة والاُخوّة والإعتماد بين الناس، وبالتّالي التّأخر في العُمران والّنمو الإقتصادي والرّفاه المادي، والتّكامل المعنوي وسلامة النّفوس.
وفي "الآية السابعة": إشارةٌ إلى حالة أهل الكتاب وعصيانهم وطغيانهم، فيقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾
ونرى هنا أيضاً تقريراً، للعلاقة الوطيدة بين العمل الصالح والتّقوى من جهة، ونزول البركة السّماوية والأرضية من جهة اُخرى، وهذه العلاقة يمكن أن تحمل الجانب المعنوي والطّبيعي، وبالأحرى الإثنين معاً.
نعم فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا حدّ لها، ويتوجب علينا تحصيل الأهليّة والقابليّة، لنتصل بالمصدر الأصلي للفيض، ولكن الإفراط والتّفريظ والعُدول عن جادّة الإعتدال والتّوازن، سوّدت وجه الحياة الإنسانيّة، وسلبت منها الراحة.
فالحروب المدمّرة تعرّي النفوس الإنسانيّة من الفضيلة والصّلاح، وتُزهق الثّروات الماديّة والمعنويّة، وتفضي بالإنسان إلى الزّوال.
وجُملة: ﴿وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ﴾، تعني كلّ الكتب السّماوية، ومن جُملتها القرآن الكريم، وذلك لأنّ اُصولها في الواقع واحدةٌ، رغم أنّه وبمرور الزّمان، وحركة المجتمع الإسلامي في خط التّكامل والتّطور، نزلت أوامر وأحكام أكثر تطوراً من السابق.
"الآية الثامنة": نستوحي منها تعبيراً جديداً عن علاقة الحياة الطيبة بالأعمال الصالحة، (والصّفات التي هي منشأ لتلك الأعمال)، فتقول الآية: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
الآيات السّابقة، كانت تؤكّد على تأثير الأخلاق على آفاق وأبعاد حركة الإنسان في الحياة الإجتماعية، وفي الآية هذه نجد أنّها تتناول الحياة الفردية، فيذكر فيها أنّ كلّ إنسان من ذكر واُنثى، إذا ما آمن وعمل صالحاً فسيحيى حياةً طيّبةً.
ولا نرى في هذه الآية أيّةَ إشارة إلى أنّ "الحياة الطيّبة" محدودةٌ بيوم القيامة فقط، بل تشير ظاهراً إلى (الحياة الطيّبة) في الدنيا، وتستوعب المفهوم العام للحياة في الدنيا والآخرة. ولكن ما هي الحياة الطيّبة؟
إختلف المفسّرون في تفسير معنى الحياة الطيّبة، فبعض فسّرها باللقمة الحلال، وقال آخر أنّها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، وقال البعض أنّها العبادة مع لقمة الحلال، وقال آخرون أنّها التّوفيق لطاعة الله تعالى، وتبنّى آخرون تفسيرها بالنّظافة من جميع الأوساخ والأدران، مثل الظّلم والخيانة والعدوان والذلّة والطّهارة والنّظافة والرّاحة، فكلّها تندرج تحت ذلك المفهوم، ولكن بالنّظر إلى جملة: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾، النّاظرة للأجر الاُخروي، يتبيّن أنّ المقصود من كلمة "الحياة الطيّبة"، هو الإشارة للحياة السّليمة في هذه الدنيا.
"الآية التاسعة": تقرر أنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى والغفلة عنه، هو السّبب في ضَنَك العيش وصعوبة الحياة، فيقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾.
ونعلم أنّ ذكر الله ومعرفة اسمائه وصفاته المقدسة، هو منبع لكلّ الكمالات، بل هو عَين الكمال، فذِكره سبب لتربيه وترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان، والصّعود به إلى آفاق معنويّة سامية، في عالم التّخَلّق بالأسماء والصّفات الإلهيّة، وهذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة، وهو السّبب في الإنفتاح على الحياة السعيدة وتطهيرها، وبالعكس، فإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى، يبعده عن مصدر النّور الإلهي، ويقترب به من الخُلق الشّيطاني والجوّ الظّلماني، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش، وينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة، وهذه هي آيةٌ اُخرى تبيّن بصراحة، علاقة الإيمان والأخلاق مع الحياة الفردية والإجتماعية للبشر.
وقد فسّر بعض أرباب اللّغة، كلمة "معيشة ضنك": بالحياة والمعيشة التي يتكسّب فيها من الحرام، لأنّ مثل هذه المعيشة، هي سبب القَلق والإضطراب الرّوحي في كثير من الاُمور. وعلى حدّ تعبير بعض المفسّرين: إنّ الأفراد غير المؤمنين، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في اُمور الدنيا، وعندهم عطشٌ مادي لا ينفذ، وخوف من زوال النّعمة، ولأجل ذلك يغلب عليهم البخل، والصّفات الذّميمة الاُخرى التي تضعهم في نار محرقة من الآلام الروحيّة والضّغوط النفسية، (بالرغم من توفر الإمكانات الماديّة الكثيرة عندهم).
وعندما يعيشون العمى في الآخرة فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ والسّعادة، وغرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة.
"الآية العاشرة": تتطرق لأحد الآثار السّيئة للعداوة والنّزاع، الموجب لتدمير عُرى الوحدة ومُصادرة القوّة والقدرة، فتقول: ﴿وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
ومن البديهي أنّ المنازعات و الإختلافات في حركة الواقع الإجتماعي، إنّما هي من إفرازات الأخلاق الرّذيلة المنحطّة الكامنة في أعماق النّفس البشريّة مثل: الأنانيّة، التكبّر، الحرص، الحقد، الحسد، وأمثال ذلك من عناصر الشرّ والإنحراف، ويترتب على ذلك توكيد عناصر الفشل والإنحطاط، وزوال عناصر العزّة والقوّة من واقع المجتمع البشري.
والجدير بالذّكر، أنّ القُرآن عبّر هنا بـ: "تذهب ريحكم".
"الريح" في الأصل بمعنى "الهواء"، وهي كناية عن: "القدرة والقوّة والغلبة"، ويمكن إستيحاء هذا المعنى من أنّ الرّيح عندما تُحرّك رايات القبيلة فانّه يُعدّ مظهراً للقوّة والغَلبة، وعليه يكون مفهوم الجُملة أنّ الإختلاف هو سبب زوال قوّتكم وعظمتكم وقدرتكم.
وأنّ المفهوم مقتبس من هبوب الرّياح الموافقة، والتي هي سبب في سرعة حركة السّفن للوصول إلى المكان المقصود، ومع إنعدامها تتوقف الحركة.
ويقول صاحب "التّحقيق": يُوجد علاقة بين الرّوح والرّيح، فالرّوح ما يحدث في ما وراء الطّبيعة، والرّيح بمعنى الحدوث في الطّبيعة.
وجاءت كلمة "ريح" في بعض الموارد، بمعنى العَطر الجميل، مثل: ﴿إنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أنْ تُفَنِّدُون﴾(يوسف:94).
وعلى هذا يمكن القول أنّ معنى الجملة هو: أنّ الإتحاد يفضي إلى إنتشار نفوذكم ورائحتكم في العالم، وإذا ما إختلفتم، فستفقدون نُفوذكم في العالم.
وعلى أيّة حال فأيّاً كان السّبب في الإختلاف، سواء كان: (الأنانيّة، الإنتفاعيّة، الحسد، البخل، والحقد وغيرها)، فسيكون له الأثر السّلبي في الحياة الإجتماعيّة وتخلّفها، ومن هنا تتجلى علاقة المسائل الأخلاقية بالمسائل الإجتماعية في حركة الواقع الإجتماعي للبشر.
النتيجة
نستوحي من الآيات الآنفة الذّكر، أنّ الخُلق السّامي الإنساني، لا يقتصر تأثيره على السّلوك المعنوي والاُخروي للإنسان فحسب، بل له الأثر الكبير في الحياة الماديّة والدنيويّة للبشر، وعليه لا ينبغي أن نتصور أنّ المسائل الأخلاقيّة، مُنحصرة بالفرد وَحده على حساب الحياة الإجتماعية، بل العكس صحيح فالأخلاق على علاقة قويّة ووطيدة مع الحياة الإجتماعيّة، وأيّ تحوّل إجتماعي في واقع الحياة البشرية، لا يمكن أن يحصل إلاّ على أساس التّحول الأخلاقي.
وبتعبير آخر: إنّ النّاس الذين يعيشون في مجتمع كبير، ويرغبون في حياة سعيدة مقرونة بالسّلم والتعاون المشترك، يجب عليهم على الأقل أن يَصِلوا إلى رُشد أخلاقي، يدركون معه الحقائق المتعلقة بإختلاف أفراد الإنسان فكراً وروحاً وعاطفةً، لأنّ الأفراد يختلفون عن بعضهم البعض، فلا نتوقع أبداً من الآخرين أن يتبعونا في كلّ شيء، والمهم في المسألة هو السّعي في الحفاظ على الاُصول المشتركة بين المجتمع، وإختلاف الأذواق والأفكار يجب التّجاوز عنه، إلى حيث اللّيونة والحلم وسِعة الصّدر والنّظر إلى المستقبل، فلا يمكن لنفرين أن يُجسّدا بينهما تعاوناً حقيقيّاً في حركة الحياة ولمدّة طويلة، إلاّ بعد التحلّي بأحد الاُصول الأخلاقيّة الآنفة الذّكر.
ومن البديهي أنّ التّهيؤ الأخلاقي لهضم نقاط الإختلاف، والوصول إلى الوحدة والقدرة والعظمة، هو أمر لازم وضروري، وهو أمر لا يتحقق بالكلام فقط، بل يحتاج إلى تهذيب وتعليم وتربية لنفوس الأفراد، كي يصل المجتمع إلى الّنمووالتّكامل في المجالات الأخلاقية.
علاقة الحياة الماديّة بالمسائل الأخلاقيّة في الرّوايات الإسلاميّة
ما استفدناه من الآيات القرآنية في الموضوع الآنف الذّكر، له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة أيضاً حيث يحكي عن التّأثير العميق للصفات الأخلاقيّة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، ونشير إلى قسم منها:
1- نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فِي سِعةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزاقِ"1.
2- ورد في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: "حُسنُ الخُلقِ يَزيدُ في الرِّزقِ"2.
3- ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: كيف أنّ الأخلاق الحسنة تُؤثّر في جلب النّاس وتحكيم أواصر الصّداقة بينهم: "مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ وَآنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ"3.
4- ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، يتطرّق فيه إلى هذا المعنى بصراحة أكثر، فيقول: "إِنَّ البِرَّ وَحُسنَ الخُلقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَيَزيدَانِ فِي الأَعمَارِ"4.
ولا شكّ أنّ تصاعد العمران وتماسك المجتمعات، يكون من خلال الإتحاد والتعاون بين أفراد المجتمع وطوائفه المختلفة، وكلّ ما يؤدّي إلى تقوية روح الاتحاد والتّعاون بين الناس، يُعتَبر من العوامل المهمّة في تحكيم المرتكزات الأساسيّة لبقاء المجتمع، وتفعيل حركة العمران فيه، وبالنسبة إلى طول العمر، نجد أنّه معلول غالباً، إلى الحياة الهادئة والبعيدة عن حالات القلق والإضطراب، وفي ظلّ التّعاون المشترك بين الأفراد. وكلّ هذه الاُمور تُعدّ من معطيات الأخلاق الحسنة في حركة الإنسان والحياة.
5- وفي هذا المضمار ورد في حديث عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، قال: "حُسنُ الخُلقِ يُثبِّتُ المَوَدَّة"5. وتوجد أيضاً أحاديث مُتعدّدة، تحكي عن تأثير سوء الخُلق في إيجاد الكراهيّة في النفوس، وتوهين الرّوابط بين الأفراد، وأنّه يورث النّفور والتّشتّت وضنك المعيشة وسلب الرّاحة والطّمأنينة.
6- ورد في حديث عن الإمام علي عليه السلام: "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ ضاقَ رِزقُهُ"6.
7- وجاء في حديث آخر أيضاً عن علي عليه السلام، أنّه قال: "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ الصَّدِيقُ والرَّفِيقُ"7.
8- وجاء أيضاً عن علي عليه السلام: "سُوءُ الخُلقِ نَكدُ العَيشِ وعَذَابُ النَّفسِ"8.
9- سأل الإمام علي عليه السلام: مَنْ أَدومُ النّاسِ غَمّاً، قال: "أَسوَؤهم خُلق"9.
10- وأخيراً نورد نصيحة لقمان الحكيم لإبنه، وهي: "وإِيّاكَ والضَّجَرِ وَسُوءُ الخُلقِ وَقِلَّةِ الصَّبرِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلَى هذِهِ الخِصالِ صاحِبُ"10
يعتقد البعض من غير المطّلعين، أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثل أمراً خاصاً في حدود الحياة الشّخصية للإنسان، وأنّها مسائل مقدّسة معنويّة، لا تفيد إلاّ في الحياة الاُخرويّة، وهو اشتباه محض، لأن أكثر المسائل الاخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الإجتماعيّة للإنسان، سواء كانت ماديّة أم معنويّة، فالمجتمع البشري بلا أخلاق، سينقلب إلى حديقةِ حيوانات لا يُجدي معها إلاّ الأقفاص، لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة، وستُهدر فيها الطّاقات، وتحطّم فيها الإستعدادات، وسيكون الأمان والحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء، وستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي.
وعندما نتحرى التأريخ، نرى أنّ كثيراً من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار، وتمزقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لإنحرافاتهم الأخلاقيّة.
وكم رأينا في التأريخ حُكّاماً، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمة وويلات، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. وكم يوجد من اُمراء فاسدين وقيادات عسكريّة متعنّتة، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح، بسبب استبدادهم بالرّأي وعدم المشورة.
والحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان، لا لَطافةَ ولا شفافيّة لها بدون الأخلاق. ولن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها، ولكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الإجتماعيّة للبشر، فما لم يتمسك أفراد المجتمع بالأخلاق، فستكون نهاية المجتمع أليمة وموحشة جدّاً.
ولرب قائل يقول: إنّ السّعادة والتكامل في واقع المجتمع البشري، يمكن أن يتحقّقا في ظِلِّ العمل بالقوانين والأحكام الصّحيحة، من دون الإعتماد على مبادىء الأخلاق في الفرد.
ونقول له: إنّ العمل بالقوانين، من دون وجود قاعدة متماسكة من القِيم الأخلاقيّة لدى الفرد غير ممكن، لأنّه إذا لم يتوفر الدّاعي الذّاتي للإنسان، فالسّعي الظّاهري لن يُجدي نفعاً.
فالقوّة والضّغط من أسوأ الأدوات لتنفيذ القوانين والضّوابط، ولا يصحّ إستعمالها إلاّ في الضّرورات، وبالعكس فإنّ الإيمان والأخلاق، يُعتبران من أفضل الأساليب لتنفيذ أيّة قرارات.
بعد هذه الإشارة، نعود للآيات القرآنيّة الناظّرة إلى هذه المسألة المهمّة، لنستوحي منها بعض المعاني في هذا المجال:
1- ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَآتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَاَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
2- ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ إِدْفَعْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ فَاِذَا الّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقّاها إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم﴾(فصّلت:34-35).
3- ﴿فَبِما رَحْمة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159).
4- ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُون﴾(سبأ:34).
5- ﴿وَابْتَغِ فِيما آتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قالَ إِنَّما اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ﴾(القصص:77-78).
6- ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوال وَبَنِْينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهار﴾(نوح:10-12).
7- ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾(المائدة:66).
8- ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُون﴾(النحل:97).
9- ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾(طه:124).
10- ﴿وَلا تَنازَعُؤا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾(الأنفال:46).
تفسير وإستنتاج
"الآية الاولى": تكلّمت عن الرّابطة بين بركات الأرض والسّماء وبين التّقوى، حيث يُصرِّح فيها بأنّ التّقوى، سبب البركات التي تنزل من السّماء على الناس، وبالعكس فإنّ عدم التّقوى والتّكذيب بآيات الله، سبب لنزول العذاب: ﴿وَلَوْ أَنَّ اَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَآلاَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَآَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
فبركات الأرض والسّماء لها معنى وسيع جداً،بحيث يشمل: نزول الأمطار، وإنبات النّباتات، وكثرة الخيرات، وكثرة القوى البشريّة.
"البركة": أصلها الثّبات والإستقرار، وبعدها اُطلقت على كلّ نِعمة وموهبة تبقى ثابتةً لا تتغير، ولذلك فإنّ الموجودات غير المبارك فيها، تكون غير ثابتة وتفنى بسرعة.
إن الكثير من الاُمم لديها إمكاناتٌ ماديّةٌ كبيرةٌ، ومعادن ومصادر للثروة تحت الأرض، وكذلك لديها أنواع الصّناعات، ولكن بسبب أعمالهم السيئة والتي لها علاقة مُباشرة بإنحطاطهم الأخلاقي، فإنّ تلك المواهب والمنن الإلهيّة، ستتعرض للإهتزاز وتفقد البركة في مضمونها الإجتماعي، حيث تُستعمل تلك النعم الإلهيّة في الغالب، لتعجيل فنائهم وزوال نعيمهم من موقع النقمة الإلهيّة.
وقد صرّح القرآن الكريم بذلك، حيث قال: ﴿وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ﴾(التوبة:85)
نعم إنّ هذه النِّعم إذا إقترنت بفساد الأخلاق، فستكون سبباً لعذاب الدنيا وخُسران السّعادة في الآخرة!.
وبعبارة اُخرى، إذا إقترنت هذه المواهب الإلهيّة، بالإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية، فستجلب الرّفاه والسعادة والعمران للمجتمع البشرى، وهذا هو الشّيء الذي تُشير إليه الآية الآنفة الذّكر.
وبالعكس فيما لوسلك الإنسان معها، اُسلوب البُخل والظُّلم والإستبداد، وسوء الخُلق وإتّباع الأهواء، فستكون من وسائل الإنحطاط والفساد والإنحراف!.
"الآية الثانية": تتحرك في إطار بيان طريقة مُهمّة ومُؤثرة جداً لدفع العداوات والضّغائن، وتوضّح أيضاً دور الأخلاق في إزالتها:﴿إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَاِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِْيمٌ﴾
ويضيف قائلا: إنّ هذا الأمر، أي سِعة الصّدر، أمرٌ لا يقدر عليه كلّ أحد، بل يختصّ بها من اُوتي حظّاً عظيماً من الإيمان والتّقوى، فيقول: ﴿وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُوحَظٍّ عَظِيْم﴾.
إنّ إحدى المشاكل الكبيرة للمجتمعات البشريّة، هي تراكم الحقد والكراهيّة في النفوس، وفي حال وصولها الذّروة، فإنّ من شأنها أن تفضي إلى إشعال نيران الحروب، التي تحرق معها كلّ شيء وتحوله إلى رماد.
ومع تحرك الإنسان من موقع: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فستذوب الأحقاد والكراهيّة كالثّلج في الصّيف، وستتخلص المجتمعات البشريّة من خطر الحروب، وتقلّ الجنايات، وتنفتح البشريّة على أجواء المحبّة والتعاون والتّكامل الإجتماعي.
ومن الطبيعي أنّ الخُشونة إذا ما قابلتها الخُشونة، والسّيئة دُفعت بالسّيئة، فستطّرد هذه السّلبيات وتتوسع يوماً بعد يوم، وبالتّالي ستجر الويلات والمآسي على المجتمع البشري.
ومن البديهي أنّ: (مسألة إدفع بالّتي هي أحسن)، لها شروطٌ وحدودٌ وإستثناءاتٌ.
"الآية الثالثة": تحدثت عن تأثير حُسن الخُلق في جلب وجذب الناس، وبيّنت أنّ المدير المتخلق بالأخلاق الإلهيّة إلى أيّ حدّ يكون موفقاً في عمله، وكيف يجمع القلوب المُتنافرة ويوحِّدها التوحيد الذي يصعد بها إلى الرّقي والكمال الإجتماعي:
﴿فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَْنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَآعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.
ففي هذه الآية، نرى التّأثير العميق لحسن الأخلاق في تقدّم أمر الإدارة، وجلب وجذب القلوب ووحدة الصّفوف، والنّجاح على مُستوى التّفاعل الإجتماعي لأفراد المجتمع فأثر حسن الأخلاق لا يتحدّد بحدود البُعد الإلهي والمعنوي فقط، بل له آثاره الوسيعة في حياة الإنسان الماديّة.
والأوامر الثّلاثة التي جاءت في ذيل الآية، يعني مسألة: "العَفوعن الخَطأ" و"طلب المغفرةِ من الباري تعالى" و"المشورة في الاُمور"، هي أيضاً تصبّ في دائرة تفعيل عناصر الأخلاق في النّفس، لأنّ تلك الأخلاق النّابعة من الرّحمة والتّواضع، تكون سبباً للعفو والإستغفار وتصحيح الأخطاء السّابقة، وإحترام شخصيّة ووجود الإنسان أيضاً.
"الآية الرابعة": تبيّن الآثار السّلبية لبعض الأخلاق السيئة، حيث يقف في مقابل الأنبياء الإلهيين، جماعة من المترفين، وهم المُنعّمين الذين ملأ الكِبر والأنانيّة أنفسهم ووجودهم: ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِْير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾.
وبعدها يعقّب قائلاً: أنّ الغُرور وصل بهم إلى درجة كبيرة، فقالوا: ﴿وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾
فمثل هذه الأخلاق القبيحة، تُعدّ سبباً في التّصدي للإصلاح الإجتماعي، على مُستوى قتل رجال الحقّ، وخنق أصوات طلاّب الحقيقة، وبالتالي زرع بذور الفساد والظّلم والطغيان في المجتمعات، وهنا يتّضح نموذج آخر من آثار الأخلاق السّيئة في المجتمعات البشريّة.
والعجيب في الأمر، أنّ روحيّة الإستكبار النّاشئة من الرّفاه المادي وسبوغ النّعمة، هي السّبب في التّورط في مُستنقع الخطيئة وإرتكاب أخطاء فاضحة جدّاً، فاعتقدوا بأنّ وفور النّعمة وكثرتها، هو دليل للقرب الإلهي، وقالوا: لولا قُربنا من الله تعالى لما آتانا تلك النّعم!؟. وبذلك أنكروا جميع القيم الأخلاقيّة والمعنويّة، ولكنّ القرآن الكريم في الآية التاليّة يُفنّد منطقهم الواهي، ويجعل المعيار هو الإيمان والعمل الصّالح.
فلم يكن موقف المترفين المشركين من قُريش بالوحيد في عصرهم، فهذا هو موقف جميع المترفين في الأقوام السّالفة مع الأنبياء والمصلحين.
"الآية الخامسة": تنظر لوجه آخر من المسألة، وتبيّن قصّة "قارون" الغني المغرور والأناني وهو من بني إسرائيل.
فعندما نصحه أهل العلم والمعرفة من قومه، وقالوا له: ﴿وَآبْتَغِ فِيما أتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ وقال وبكلّ تكبّر وغُرور: ﴿قالَ إِنَّما اُوتيْتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدِي﴾.
يعني أنّ الله لا دخل له في وفور النّعمة عليّ، ولكنّ علمي ودرايتي بالاُمور هي السّبب في ذلك وهكذا أودى به الكِبر والغُرور إلى السّقوط في وادي إنكار الآيات الإلهيّة، وبالتّالي التّحرك من موقع التعاون مع أعداء الحقّ والعدالة، وفي لحظة وحادثة عجيبة، خُسِفَت به وَبِأمواله الأرض.
وهنا نرى كيف أنّ الرّذائل الأخلاقيّة، بإمكانها تغيير وجوه الأشخاص والمجتمعات، ومنعهم من الوصول إلى الخير والسّعادة.
والطّريف في الأمر، أنّنا نقرأ في الآيات التي قبلها، بأنّ قومه قالوا له: ﴿إِذْ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَرِحينَ﴾..
ومن البديهي أنّ الإسلام لا يعارض الفرح والسّرور، ولكنّ المقصود هنا الفرح النّاشيء من الغَفلة والغرور ونِسيان الله تعالى، والمقترن بالظّلم والفساد ومُمارسة الخطيئة والذي بدوره يجرّ الإنسان لِلعربدة والجُموح والفساد، وكلّ ذلك منشؤه الصّفات القبيحة التي تضرب بجرانها في القلب.
"الآية السادسة": نقرأ فيها شكوى النّبي نوح عليه السلام إلى الباري تعالى، فنرى في طيّاتها معان تُشير إلى تأثير أعمال الإنسان، والأخلاق التي تدعم تلك الأعمال، في الحياة الفرديّة والإجتماعيّة للإنسان، فيقول: ﴿فَقُلْت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدْراراً * وَيُمْدِدكُم بِأَمْوال وَبَنَينَ * وَيَجْعَلْ لَكُم جَنَّات وَيَجعَلْ لَكُم أَنهاراً﴾.
وفي الإستمرار في قراءة تلك الآيات، نرى عصيانهم وتمرّدهم على الأوامر الإلهيّة، وكذلك تبيّن الآيات صفاتهم القبيحة، والتي هي بمثابة المنَبع الآسن الذي يمدهم بالذّنوب.
ويمكن القول أنّ ما ذُكر آنفاً، هو العلاقة المعنويّة والإلهيّة بين الإستغفار وترك الذنوب، وبين زيادة النعم، ولا يوجد منع من سراية هذه العلاقة لتشمل البُعد الظّاهري والبُعد المعنوي، لذلك نقرأ في آية اُخرى من القرآن الكريم: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيدِي النّاسِ﴾(الروم:41).
وقد ورد هذا المعنى في سورة هود بشكل آخر على لسان الرسول صلى الله عليه واله وسلم، في خطابه لُمشركي مكّة: ﴿وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعُكُم مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَل مُسَمّىً﴾(هود:3).
لا شك أنّ الّتمتع "بالمتاع الحسن"، لأجل مُسمّى، هو إشارةٌ إلى المواهب الماديّة الدنيويّة، فهي رهينة الإستغفار والتّوبة من الذّنب، والعودة إلى الباري تعالى، والتّخلق بالأخلاق الحسنة.
ولا شكّ أنّ الصّفات القبيحة هي الأساس والأصل لأنواع الذّنوب، والذّنوب بدورها سبب لنشر الفساد في المجتمع وتفكيك لِعُرى الوحدة، وأواصر الصّداقة والاُخوّة والإعتماد بين الناس، وبالتّالي التّأخر في العُمران والّنمو الإقتصادي والرّفاه المادي، والتّكامل المعنوي وسلامة النّفوس.
وفي "الآية السابعة": إشارةٌ إلى حالة أهل الكتاب وعصيانهم وطغيانهم، فيقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾
ونرى هنا أيضاً تقريراً، للعلاقة الوطيدة بين العمل الصالح والتّقوى من جهة، ونزول البركة السّماوية والأرضية من جهة اُخرى، وهذه العلاقة يمكن أن تحمل الجانب المعنوي والطّبيعي، وبالأحرى الإثنين معاً.
نعم فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا حدّ لها، ويتوجب علينا تحصيل الأهليّة والقابليّة، لنتصل بالمصدر الأصلي للفيض، ولكن الإفراط والتّفريظ والعُدول عن جادّة الإعتدال والتّوازن، سوّدت وجه الحياة الإنسانيّة، وسلبت منها الراحة.
فالحروب المدمّرة تعرّي النفوس الإنسانيّة من الفضيلة والصّلاح، وتُزهق الثّروات الماديّة والمعنويّة، وتفضي بالإنسان إلى الزّوال.
وجُملة: ﴿وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ﴾، تعني كلّ الكتب السّماوية، ومن جُملتها القرآن الكريم، وذلك لأنّ اُصولها في الواقع واحدةٌ، رغم أنّه وبمرور الزّمان، وحركة المجتمع الإسلامي في خط التّكامل والتّطور، نزلت أوامر وأحكام أكثر تطوراً من السابق.
"الآية الثامنة": نستوحي منها تعبيراً جديداً عن علاقة الحياة الطيبة بالأعمال الصالحة، (والصّفات التي هي منشأ لتلك الأعمال)، فتقول الآية: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
الآيات السّابقة، كانت تؤكّد على تأثير الأخلاق على آفاق وأبعاد حركة الإنسان في الحياة الإجتماعية، وفي الآية هذه نجد أنّها تتناول الحياة الفردية، فيذكر فيها أنّ كلّ إنسان من ذكر واُنثى، إذا ما آمن وعمل صالحاً فسيحيى حياةً طيّبةً.
ولا نرى في هذه الآية أيّةَ إشارة إلى أنّ "الحياة الطيّبة" محدودةٌ بيوم القيامة فقط، بل تشير ظاهراً إلى (الحياة الطيّبة) في الدنيا، وتستوعب المفهوم العام للحياة في الدنيا والآخرة. ولكن ما هي الحياة الطيّبة؟
إختلف المفسّرون في تفسير معنى الحياة الطيّبة، فبعض فسّرها باللقمة الحلال، وقال آخر أنّها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، وقال البعض أنّها العبادة مع لقمة الحلال، وقال آخرون أنّها التّوفيق لطاعة الله تعالى، وتبنّى آخرون تفسيرها بالنّظافة من جميع الأوساخ والأدران، مثل الظّلم والخيانة والعدوان والذلّة والطّهارة والنّظافة والرّاحة، فكلّها تندرج تحت ذلك المفهوم، ولكن بالنّظر إلى جملة: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾، النّاظرة للأجر الاُخروي، يتبيّن أنّ المقصود من كلمة "الحياة الطيّبة"، هو الإشارة للحياة السّليمة في هذه الدنيا.
"الآية التاسعة": تقرر أنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى والغفلة عنه، هو السّبب في ضَنَك العيش وصعوبة الحياة، فيقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾.
ونعلم أنّ ذكر الله ومعرفة اسمائه وصفاته المقدسة، هو منبع لكلّ الكمالات، بل هو عَين الكمال، فذِكره سبب لتربيه وترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان، والصّعود به إلى آفاق معنويّة سامية، في عالم التّخَلّق بالأسماء والصّفات الإلهيّة، وهذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة، وهو السّبب في الإنفتاح على الحياة السعيدة وتطهيرها، وبالعكس، فإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى، يبعده عن مصدر النّور الإلهي، ويقترب به من الخُلق الشّيطاني والجوّ الظّلماني، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش، وينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة، وهذه هي آيةٌ اُخرى تبيّن بصراحة، علاقة الإيمان والأخلاق مع الحياة الفردية والإجتماعية للبشر.
وقد فسّر بعض أرباب اللّغة، كلمة "معيشة ضنك": بالحياة والمعيشة التي يتكسّب فيها من الحرام، لأنّ مثل هذه المعيشة، هي سبب القَلق والإضطراب الرّوحي في كثير من الاُمور. وعلى حدّ تعبير بعض المفسّرين: إنّ الأفراد غير المؤمنين، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في اُمور الدنيا، وعندهم عطشٌ مادي لا ينفذ، وخوف من زوال النّعمة، ولأجل ذلك يغلب عليهم البخل، والصّفات الذّميمة الاُخرى التي تضعهم في نار محرقة من الآلام الروحيّة والضّغوط النفسية، (بالرغم من توفر الإمكانات الماديّة الكثيرة عندهم).
وعندما يعيشون العمى في الآخرة فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ والسّعادة، وغرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة.
"الآية العاشرة": تتطرق لأحد الآثار السّيئة للعداوة والنّزاع، الموجب لتدمير عُرى الوحدة ومُصادرة القوّة والقدرة، فتقول: ﴿وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
ومن البديهي أنّ المنازعات و الإختلافات في حركة الواقع الإجتماعي، إنّما هي من إفرازات الأخلاق الرّذيلة المنحطّة الكامنة في أعماق النّفس البشريّة مثل: الأنانيّة، التكبّر، الحرص، الحقد، الحسد، وأمثال ذلك من عناصر الشرّ والإنحراف، ويترتب على ذلك توكيد عناصر الفشل والإنحطاط، وزوال عناصر العزّة والقوّة من واقع المجتمع البشري.
والجدير بالذّكر، أنّ القُرآن عبّر هنا بـ: "تذهب ريحكم".
"الريح" في الأصل بمعنى "الهواء"، وهي كناية عن: "القدرة والقوّة والغلبة"، ويمكن إستيحاء هذا المعنى من أنّ الرّيح عندما تُحرّك رايات القبيلة فانّه يُعدّ مظهراً للقوّة والغَلبة، وعليه يكون مفهوم الجُملة أنّ الإختلاف هو سبب زوال قوّتكم وعظمتكم وقدرتكم.
وأنّ المفهوم مقتبس من هبوب الرّياح الموافقة، والتي هي سبب في سرعة حركة السّفن للوصول إلى المكان المقصود، ومع إنعدامها تتوقف الحركة.
ويقول صاحب "التّحقيق": يُوجد علاقة بين الرّوح والرّيح، فالرّوح ما يحدث في ما وراء الطّبيعة، والرّيح بمعنى الحدوث في الطّبيعة.
وجاءت كلمة "ريح" في بعض الموارد، بمعنى العَطر الجميل، مثل: ﴿إنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أنْ تُفَنِّدُون﴾(يوسف:94).
وعلى هذا يمكن القول أنّ معنى الجملة هو: أنّ الإتحاد يفضي إلى إنتشار نفوذكم ورائحتكم في العالم، وإذا ما إختلفتم، فستفقدون نُفوذكم في العالم.
وعلى أيّة حال فأيّاً كان السّبب في الإختلاف، سواء كان: (الأنانيّة، الإنتفاعيّة، الحسد، البخل، والحقد وغيرها)، فسيكون له الأثر السّلبي في الحياة الإجتماعيّة وتخلّفها، ومن هنا تتجلى علاقة المسائل الأخلاقية بالمسائل الإجتماعية في حركة الواقع الإجتماعي للبشر.
النتيجة
نستوحي من الآيات الآنفة الذّكر، أنّ الخُلق السّامي الإنساني، لا يقتصر تأثيره على السّلوك المعنوي والاُخروي للإنسان فحسب، بل له الأثر الكبير في الحياة الماديّة والدنيويّة للبشر، وعليه لا ينبغي أن نتصور أنّ المسائل الأخلاقيّة، مُنحصرة بالفرد وَحده على حساب الحياة الإجتماعية، بل العكس صحيح فالأخلاق على علاقة قويّة ووطيدة مع الحياة الإجتماعيّة، وأيّ تحوّل إجتماعي في واقع الحياة البشرية، لا يمكن أن يحصل إلاّ على أساس التّحول الأخلاقي.
وبتعبير آخر: إنّ النّاس الذين يعيشون في مجتمع كبير، ويرغبون في حياة سعيدة مقرونة بالسّلم والتعاون المشترك، يجب عليهم على الأقل أن يَصِلوا إلى رُشد أخلاقي، يدركون معه الحقائق المتعلقة بإختلاف أفراد الإنسان فكراً وروحاً وعاطفةً، لأنّ الأفراد يختلفون عن بعضهم البعض، فلا نتوقع أبداً من الآخرين أن يتبعونا في كلّ شيء، والمهم في المسألة هو السّعي في الحفاظ على الاُصول المشتركة بين المجتمع، وإختلاف الأذواق والأفكار يجب التّجاوز عنه، إلى حيث اللّيونة والحلم وسِعة الصّدر والنّظر إلى المستقبل، فلا يمكن لنفرين أن يُجسّدا بينهما تعاوناً حقيقيّاً في حركة الحياة ولمدّة طويلة، إلاّ بعد التحلّي بأحد الاُصول الأخلاقيّة الآنفة الذّكر.
ومن البديهي أنّ التّهيؤ الأخلاقي لهضم نقاط الإختلاف، والوصول إلى الوحدة والقدرة والعظمة، هو أمر لازم وضروري، وهو أمر لا يتحقق بالكلام فقط، بل يحتاج إلى تهذيب وتعليم وتربية لنفوس الأفراد، كي يصل المجتمع إلى الّنمووالتّكامل في المجالات الأخلاقية.
علاقة الحياة الماديّة بالمسائل الأخلاقيّة في الرّوايات الإسلاميّة
ما استفدناه من الآيات القرآنية في الموضوع الآنف الذّكر، له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة أيضاً حيث يحكي عن التّأثير العميق للصفات الأخلاقيّة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، ونشير إلى قسم منها:
1- نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فِي سِعةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزاقِ"1.
2- ورد في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: "حُسنُ الخُلقِ يَزيدُ في الرِّزقِ"2.
3- ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: كيف أنّ الأخلاق الحسنة تُؤثّر في جلب النّاس وتحكيم أواصر الصّداقة بينهم: "مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ وَآنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ"3.
4- ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، يتطرّق فيه إلى هذا المعنى بصراحة أكثر، فيقول: "إِنَّ البِرَّ وَحُسنَ الخُلقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَيَزيدَانِ فِي الأَعمَارِ"4.
ولا شكّ أنّ تصاعد العمران وتماسك المجتمعات، يكون من خلال الإتحاد والتعاون بين أفراد المجتمع وطوائفه المختلفة، وكلّ ما يؤدّي إلى تقوية روح الاتحاد والتّعاون بين الناس، يُعتَبر من العوامل المهمّة في تحكيم المرتكزات الأساسيّة لبقاء المجتمع، وتفعيل حركة العمران فيه، وبالنسبة إلى طول العمر، نجد أنّه معلول غالباً، إلى الحياة الهادئة والبعيدة عن حالات القلق والإضطراب، وفي ظلّ التّعاون المشترك بين الأفراد. وكلّ هذه الاُمور تُعدّ من معطيات الأخلاق الحسنة في حركة الإنسان والحياة.
5- وفي هذا المضمار ورد في حديث عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، قال: "حُسنُ الخُلقِ يُثبِّتُ المَوَدَّة"5. وتوجد أيضاً أحاديث مُتعدّدة، تحكي عن تأثير سوء الخُلق في إيجاد الكراهيّة في النفوس، وتوهين الرّوابط بين الأفراد، وأنّه يورث النّفور والتّشتّت وضنك المعيشة وسلب الرّاحة والطّمأنينة.
6- ورد في حديث عن الإمام علي عليه السلام: "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ ضاقَ رِزقُهُ"6.
7- وجاء في حديث آخر أيضاً عن علي عليه السلام، أنّه قال: "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ الصَّدِيقُ والرَّفِيقُ"7.
8- وجاء أيضاً عن علي عليه السلام: "سُوءُ الخُلقِ نَكدُ العَيشِ وعَذَابُ النَّفسِ"8.
9- سأل الإمام علي عليه السلام: مَنْ أَدومُ النّاسِ غَمّاً، قال: "أَسوَؤهم خُلق"9.
10- وأخيراً نورد نصيحة لقمان الحكيم لإبنه، وهي: "وإِيّاكَ والضَّجَرِ وَسُوءُ الخُلقِ وَقِلَّةِ الصَّبرِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلَى هذِهِ الخِصالِ صاحِبُ"10