منتدى الحياة الموصلية



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى الحياة الموصلية

منتدى الحياة الموصلية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى الحياة الموصلية

منتدى ( ادبي - علمي - ثقافي - رياضي )


    حكايات من القرية : الزوج الوفي

    جاسم شلال
    جاسم شلال
    مشرف مساعد
    مشرف مساعد


    عدد المساهمات : 392
    نقاط : 1143
    تاريخ التسجيل : 27/09/2010
    العمر : 56

    حكايات من القرية : الزوج الوفي  Empty حكايات من القرية : الزوج الوفي

    مُساهمة من طرف جاسم شلال الخميس سبتمبر 29, 2011 3:10 pm

    الزوج الوفي
    في كل صباح تخرج إلى الحقل تحمل بيدها مسحاتها وكأنها رجل , تزرع الأرض , تقف في وسط الحقل وكأنها تقيسه طولاً وعرضاً .
    امرأة سمراء الوجه تتقد عيناها حيوية ونشاطاً , إذا سارت تهد الأرض هداً , كان شيوخ القرية يسمونها (الضابط) لقامتها المنتصبة ومشيتها المتزنة الواثقة ، إذا تكلمت يجلجل صوتها من بعيد ، تحمل عن زوجها عبئ الحياة لسنوات طوال ، وهي تحتمل قسوتها ومعاناتها في هذه القرية الخاملة وها هما يتقدمان بالسن , وأولادهما يكبرون أمام ناظريهما , لم تعرف المرض يوماً ما وتسخر من الذين يصابون به , سقطت في أحد أيام الصيف وهي تسقي حقلها , لم تدم أكثر من نصف ساعة ففارقت الحياة .
    ياالله كيف خارت قواها ، واختفى ذلك الصوت الهدار إلى الأبد ، وأخذ يعلو فمها الزبد لقد مرَّ عليها الموت فاختطفها سريعاً ، لقد ماتت وهي لم تتجاوز الخمسين من عمرها ولكنها تركت خلفها تاريخاً عبقاً طيباً طاهراً نقياً .
    هرع زوجها إليها وحملها بين يديه ، وتدفقت عيناه بالدمع ، وكانت نفسه تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور الجميلة ما ألذي أصابها في هذا اليوم ؟
    وضعها في السيارة ليحملها إلى المستشفى ، الكل يناديه : إنها فارقت الحياة ولكنه لا يسمع لأحدهم صوتاً , قاد سيارته مسرعاً وهي تطوي الأرض بسرعة كأنها تنشر ما انطوى من الذكريات أمام عينيه ، وأزدحمت في نفسه صور حياته الماضية وحببت إليه كثيراً تلك الصور .
    وما إن وصل إلى المستشفى ، أخذ يضرب على الجدار ويتمنى أن لو استطاع الطبيب إسعافها ، إلا انه أيقن أنها فارقت الحياة .
    أخذ يصرخ كيف لي أن أعيش بدونها ؟
    شخص بصره ، وبح صوته ، وأخذ يرد كلمات هادئة بصوت خافت كأنه يناجيها ، وهو يبتلع ريقه بين حين وآخر .
    ثم علا صوته وقال : لا أستطيع أن أتصور أنها فارقت الحياة ؟
    وبعد دفنها وقف على القبر وكان يتمنى أن تكون له نافذة ليطل عليها من خلالها، وخالطه حزن عميق , والدماء تشتعل في عروقه , غضباً وألماً وكرهاً لهذه الحياة ، وحباً في لحاق محبوبه المسافر بعيداً عنه.
    لمس القبر فما أحس إلا بسخونة الحجر ، وأظنَّها سخونة قلبه ، أغمض عينيه وفتح قلبه لعله يسمع نداءً منها .
    حملوه عن قبرها ولما جاوز القبر واتجه إلى القرية ماج واضطرب وقال لم يبق لي أحد في هذه القرية اللعينة ؟ لقد رحلت الأم والأخت والزوجة والأخ بعيداً عني وأجهش بالبكاء.
    فلما دخل الدار هاجت نفسه واضطرمت وأثارها ما أثارها من رؤية أطلال الأحبة والوقوف على آثارهم الغابرة ، لقد مر على البيت ثم جلس على الفراش لم يستطع البقاء فيه , خرج مسرعاً إلى الحقل وها هو واقفٌ على القبر من جديد ، يبكيها بكاءاً لم يبكِهِ على أحدٍ من قبل.
    وما هي إلا أيام وفقد بعض بصره واحدودب ظهره وخارت قواه وأصبحت عصاه ملازمة له ، لم تعد قدماه تحمله , ولم يستطيع السير عليهما ، كان يقول مخاطبا قدميه : كيف لهتين الساقين النحيلتين أن تحملا جبلاً من الهم يكمن في صدري , بلغ منه الحزن مبلغاً عظيماً واشتعلت نارُ الشوق ولوعة الفراق قلبَهُ . فلما كان يُسأل عن حاله يقول : قتلني البعد عن الأحبة .
    تراه يجلس خارج الدار ولا يدخلها إلا لينام فلما كان يُسأل عن ذلك يقول : لِمَ أقيمُ في مكان لم أعد آلفه وأصبح كل مافيه غريب عني .
    إنه شعور من لا يريد الحياة ولا يجد الموت ولكن يبصره من بعيد ، قابلته فوجدته ضيق الصدر شارد الخاطر , كأن به علة في جسده فلما رآني انسل الرجل وبكى فقلت : يا عم إنها سنة واحدة من الفراق تفعل بك ما فعلت ؟.
    فقال: كيف لي أن أنسى من كان قسيم حياتي لثلاثين سنة لم أعُدْ أجد في الدنيا ما يرغبني بها أو يغريني أن أحرص عليها .
    فقلت : أليس لك أولاد ، وولدٌ صغيرٌ لم تزوجه بعد ؟
    قال : لاتخف يا بني فأنا لا أموت من الحزن أبداً حتى أزوج أخاك الأصغر ثم أردف قائلاً : صدقني إنني لا آسف في هذه الحياة على شيء ضاع مني أبداً سوى أسفي على فراقها ولا أطمع في شيء طمعي بعودتها إليّ من جديد ، ولكن الكل يعرف أن هذا من المحال لم تمر الذكرى السنوية الأولى على رحيل زوجته إلا وفارق الحياة .
    حضر أهل القرية دفنه وشهدوا بأم أعينهم كيف رحل هذا الرجل المحب ، إنهم لم يشهدوا لهذين الزوجين في الدنيا نظيراً أو مثيلاً في مقدار حبهما وكثرة وفائهما لبعضهما .
    لقد كانت هذه صور من صورة الوفاء في قريتنا التي لا زالت ألسنةُ الناس تتداولها .


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 2:58 am