الزوج الوفي
في كل صباح تخرج إلى الحقل تحمل بيدها مسحاتها وكأنها رجل , تزرع الأرض , تقف في وسط الحقل وكأنها تقيسه طولاً وعرضاً .
امرأة سمراء الوجه تتقد عيناها حيوية ونشاطاً , إذا سارت تهد الأرض هداً , كان شيوخ القرية يسمونها (الضابط) لقامتها المنتصبة ومشيتها المتزنة الواثقة ، إذا تكلمت يجلجل صوتها من بعيد ، تحمل عن زوجها عبئ الحياة لسنوات طوال ، وهي تحتمل قسوتها ومعاناتها في هذه القرية الخاملة وها هما يتقدمان بالسن , وأولادهما يكبرون أمام ناظريهما , لم تعرف المرض يوماً ما وتسخر من الذين يصابون به , سقطت في أحد أيام الصيف وهي تسقي حقلها , لم تدم أكثر من نصف ساعة ففارقت الحياة .
ياالله كيف خارت قواها ، واختفى ذلك الصوت الهدار إلى الأبد ، وأخذ يعلو فمها الزبد لقد مرَّ عليها الموت فاختطفها سريعاً ، لقد ماتت وهي لم تتجاوز الخمسين من عمرها ولكنها تركت خلفها تاريخاً عبقاً طيباً طاهراً نقياً .
هرع زوجها إليها وحملها بين يديه ، وتدفقت عيناه بالدمع ، وكانت نفسه تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور الجميلة ما ألذي أصابها في هذا اليوم ؟
وضعها في السيارة ليحملها إلى المستشفى ، الكل يناديه : إنها فارقت الحياة ولكنه لا يسمع لأحدهم صوتاً , قاد سيارته مسرعاً وهي تطوي الأرض بسرعة كأنها تنشر ما انطوى من الذكريات أمام عينيه ، وأزدحمت في نفسه صور حياته الماضية وحببت إليه كثيراً تلك الصور .
وما إن وصل إلى المستشفى ، أخذ يضرب على الجدار ويتمنى أن لو استطاع الطبيب إسعافها ، إلا انه أيقن أنها فارقت الحياة .
أخذ يصرخ كيف لي أن أعيش بدونها ؟
شخص بصره ، وبح صوته ، وأخذ يرد كلمات هادئة بصوت خافت كأنه يناجيها ، وهو يبتلع ريقه بين حين وآخر .
ثم علا صوته وقال : لا أستطيع أن أتصور أنها فارقت الحياة ؟
وبعد دفنها وقف على القبر وكان يتمنى أن تكون له نافذة ليطل عليها من خلالها، وخالطه حزن عميق , والدماء تشتعل في عروقه , غضباً وألماً وكرهاً لهذه الحياة ، وحباً في لحاق محبوبه المسافر بعيداً عنه.
لمس القبر فما أحس إلا بسخونة الحجر ، وأظنَّها سخونة قلبه ، أغمض عينيه وفتح قلبه لعله يسمع نداءً منها .
حملوه عن قبرها ولما جاوز القبر واتجه إلى القرية ماج واضطرب وقال لم يبق لي أحد في هذه القرية اللعينة ؟ لقد رحلت الأم والأخت والزوجة والأخ بعيداً عني وأجهش بالبكاء.
فلما دخل الدار هاجت نفسه واضطرمت وأثارها ما أثارها من رؤية أطلال الأحبة والوقوف على آثارهم الغابرة ، لقد مر على البيت ثم جلس على الفراش لم يستطع البقاء فيه , خرج مسرعاً إلى الحقل وها هو واقفٌ على القبر من جديد ، يبكيها بكاءاً لم يبكِهِ على أحدٍ من قبل.
وما هي إلا أيام وفقد بعض بصره واحدودب ظهره وخارت قواه وأصبحت عصاه ملازمة له ، لم تعد قدماه تحمله , ولم يستطيع السير عليهما ، كان يقول مخاطبا قدميه : كيف لهتين الساقين النحيلتين أن تحملا جبلاً من الهم يكمن في صدري , بلغ منه الحزن مبلغاً عظيماً واشتعلت نارُ الشوق ولوعة الفراق قلبَهُ . فلما كان يُسأل عن حاله يقول : قتلني البعد عن الأحبة .
تراه يجلس خارج الدار ولا يدخلها إلا لينام فلما كان يُسأل عن ذلك يقول : لِمَ أقيمُ في مكان لم أعد آلفه وأصبح كل مافيه غريب عني .
إنه شعور من لا يريد الحياة ولا يجد الموت ولكن يبصره من بعيد ، قابلته فوجدته ضيق الصدر شارد الخاطر , كأن به علة في جسده فلما رآني انسل الرجل وبكى فقلت : يا عم إنها سنة واحدة من الفراق تفعل بك ما فعلت ؟.
فقال: كيف لي أن أنسى من كان قسيم حياتي لثلاثين سنة لم أعُدْ أجد في الدنيا ما يرغبني بها أو يغريني أن أحرص عليها .
فقلت : أليس لك أولاد ، وولدٌ صغيرٌ لم تزوجه بعد ؟
قال : لاتخف يا بني فأنا لا أموت من الحزن أبداً حتى أزوج أخاك الأصغر ثم أردف قائلاً : صدقني إنني لا آسف في هذه الحياة على شيء ضاع مني أبداً سوى أسفي على فراقها ولا أطمع في شيء طمعي بعودتها إليّ من جديد ، ولكن الكل يعرف أن هذا من المحال لم تمر الذكرى السنوية الأولى على رحيل زوجته إلا وفارق الحياة .
حضر أهل القرية دفنه وشهدوا بأم أعينهم كيف رحل هذا الرجل المحب ، إنهم لم يشهدوا لهذين الزوجين في الدنيا نظيراً أو مثيلاً في مقدار حبهما وكثرة وفائهما لبعضهما .
لقد كانت هذه صور من صورة الوفاء في قريتنا التي لا زالت ألسنةُ الناس تتداولها .
في كل صباح تخرج إلى الحقل تحمل بيدها مسحاتها وكأنها رجل , تزرع الأرض , تقف في وسط الحقل وكأنها تقيسه طولاً وعرضاً .
امرأة سمراء الوجه تتقد عيناها حيوية ونشاطاً , إذا سارت تهد الأرض هداً , كان شيوخ القرية يسمونها (الضابط) لقامتها المنتصبة ومشيتها المتزنة الواثقة ، إذا تكلمت يجلجل صوتها من بعيد ، تحمل عن زوجها عبئ الحياة لسنوات طوال ، وهي تحتمل قسوتها ومعاناتها في هذه القرية الخاملة وها هما يتقدمان بالسن , وأولادهما يكبرون أمام ناظريهما , لم تعرف المرض يوماً ما وتسخر من الذين يصابون به , سقطت في أحد أيام الصيف وهي تسقي حقلها , لم تدم أكثر من نصف ساعة ففارقت الحياة .
ياالله كيف خارت قواها ، واختفى ذلك الصوت الهدار إلى الأبد ، وأخذ يعلو فمها الزبد لقد مرَّ عليها الموت فاختطفها سريعاً ، لقد ماتت وهي لم تتجاوز الخمسين من عمرها ولكنها تركت خلفها تاريخاً عبقاً طيباً طاهراً نقياً .
هرع زوجها إليها وحملها بين يديه ، وتدفقت عيناه بالدمع ، وكانت نفسه تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور الجميلة ما ألذي أصابها في هذا اليوم ؟
وضعها في السيارة ليحملها إلى المستشفى ، الكل يناديه : إنها فارقت الحياة ولكنه لا يسمع لأحدهم صوتاً , قاد سيارته مسرعاً وهي تطوي الأرض بسرعة كأنها تنشر ما انطوى من الذكريات أمام عينيه ، وأزدحمت في نفسه صور حياته الماضية وحببت إليه كثيراً تلك الصور .
وما إن وصل إلى المستشفى ، أخذ يضرب على الجدار ويتمنى أن لو استطاع الطبيب إسعافها ، إلا انه أيقن أنها فارقت الحياة .
أخذ يصرخ كيف لي أن أعيش بدونها ؟
شخص بصره ، وبح صوته ، وأخذ يرد كلمات هادئة بصوت خافت كأنه يناجيها ، وهو يبتلع ريقه بين حين وآخر .
ثم علا صوته وقال : لا أستطيع أن أتصور أنها فارقت الحياة ؟
وبعد دفنها وقف على القبر وكان يتمنى أن تكون له نافذة ليطل عليها من خلالها، وخالطه حزن عميق , والدماء تشتعل في عروقه , غضباً وألماً وكرهاً لهذه الحياة ، وحباً في لحاق محبوبه المسافر بعيداً عنه.
لمس القبر فما أحس إلا بسخونة الحجر ، وأظنَّها سخونة قلبه ، أغمض عينيه وفتح قلبه لعله يسمع نداءً منها .
حملوه عن قبرها ولما جاوز القبر واتجه إلى القرية ماج واضطرب وقال لم يبق لي أحد في هذه القرية اللعينة ؟ لقد رحلت الأم والأخت والزوجة والأخ بعيداً عني وأجهش بالبكاء.
فلما دخل الدار هاجت نفسه واضطرمت وأثارها ما أثارها من رؤية أطلال الأحبة والوقوف على آثارهم الغابرة ، لقد مر على البيت ثم جلس على الفراش لم يستطع البقاء فيه , خرج مسرعاً إلى الحقل وها هو واقفٌ على القبر من جديد ، يبكيها بكاءاً لم يبكِهِ على أحدٍ من قبل.
وما هي إلا أيام وفقد بعض بصره واحدودب ظهره وخارت قواه وأصبحت عصاه ملازمة له ، لم تعد قدماه تحمله , ولم يستطيع السير عليهما ، كان يقول مخاطبا قدميه : كيف لهتين الساقين النحيلتين أن تحملا جبلاً من الهم يكمن في صدري , بلغ منه الحزن مبلغاً عظيماً واشتعلت نارُ الشوق ولوعة الفراق قلبَهُ . فلما كان يُسأل عن حاله يقول : قتلني البعد عن الأحبة .
تراه يجلس خارج الدار ولا يدخلها إلا لينام فلما كان يُسأل عن ذلك يقول : لِمَ أقيمُ في مكان لم أعد آلفه وأصبح كل مافيه غريب عني .
إنه شعور من لا يريد الحياة ولا يجد الموت ولكن يبصره من بعيد ، قابلته فوجدته ضيق الصدر شارد الخاطر , كأن به علة في جسده فلما رآني انسل الرجل وبكى فقلت : يا عم إنها سنة واحدة من الفراق تفعل بك ما فعلت ؟.
فقال: كيف لي أن أنسى من كان قسيم حياتي لثلاثين سنة لم أعُدْ أجد في الدنيا ما يرغبني بها أو يغريني أن أحرص عليها .
فقلت : أليس لك أولاد ، وولدٌ صغيرٌ لم تزوجه بعد ؟
قال : لاتخف يا بني فأنا لا أموت من الحزن أبداً حتى أزوج أخاك الأصغر ثم أردف قائلاً : صدقني إنني لا آسف في هذه الحياة على شيء ضاع مني أبداً سوى أسفي على فراقها ولا أطمع في شيء طمعي بعودتها إليّ من جديد ، ولكن الكل يعرف أن هذا من المحال لم تمر الذكرى السنوية الأولى على رحيل زوجته إلا وفارق الحياة .
حضر أهل القرية دفنه وشهدوا بأم أعينهم كيف رحل هذا الرجل المحب ، إنهم لم يشهدوا لهذين الزوجين في الدنيا نظيراً أو مثيلاً في مقدار حبهما وكثرة وفائهما لبعضهما .
لقد كانت هذه صور من صورة الوفاء في قريتنا التي لا زالت ألسنةُ الناس تتداولها .