الأمل الضائع
لا يهيج النفس ويثيرها مثل نبش الماضي وذكرياته الجميلة والحزينة ، وقف ( الحاج صباح ) بقامته القصيرة الهزيلة والوجه الشاحب والعينين الغائرتين ،والظهر المنحني إلى شقه الأيسر ، يحمل سيكارته بيده ، وهو يثرثر بكلام اعتاد الناس سماعه منه في كل يوم في مجمع القرية ، يقص عليهم ولادته وكيف تنكر أبناؤه له ، ويشكو ظلم الحياة له وقسوتها عليه ، رجل كان ولا زال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يقول إلا الحق ، يتصدى لكل من ينحرف عن جادة الصواب ولا يأبه بكل الانتقادات التي توجه إليه .
ولد في بيت فقير لأب وأمّ وعدد من الأبناء والبنات ، دخل الدراسة الابتدائية فتفوق فيها كثيراً , ولما أصبح في الدراسة المتوسطة , توفي أبوه ولم يستطيع إكمال دراسته لكونه أصبح المعيل لهذه الأسرة , فأخذ دور والده في الأرض وأخذ يزرع الأرض ويرعي أبقاره , التحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية ، فلما تسرح منها عمل سائقاً في مديرية الزراعة ، وتزوج من أخت الحاج سالم الضابط في الجيش العراقي ، وأصبح معيلاً لزوجته وأمه وثلاثة من الإخوة والأخوات , كثر خيره وتحسنت أحواله المعاشية ، إذ كان يتقاضى راتبا من عمله في دائرة الزراعة فضلاً عمّا تدره أرضه الزراعية من غلال ، وبقي هاجس إكمال دراسته في خاطره ويعتصر قلبه الألم كلما رأى شخصاً بوظيفة مرموقة ، لأنه كان يطمح أن يكون مدرساً في مدرسة القرية , ولكن هذا الطموح اندثر لفقره , وفي بعض الأحيان يقف أمام جامعة الموصل عند زيارته لمدينة الموصل ، وينظر إلى طلابها وهم يخرجون منها ويتألم برغم انه تجاوز الأربعين سنة والخمسين والستين ، فلما أنجب كان يعلم ولده الأول قبل أن يدخل المدرسة ويقول لزوجته : إذا أكمل الولد البِكْر هذا المدرسة فالبقية سائرون خلفه , لذا يجب علينا أن نهتم به كثيراً ولا سيما دراسته وأخذ يشرف على تدريسه اليومي ويراقب جدول الامتحانات الشهرية ولما أصبح في الدراسة المتوسطة كان يوصله بسيارته إلى المدرسة , حتى أكملها وتبعه الثاني والثالث والرابع والخامس , وبدأ يحث أبنائه على التعليم ليكملوا دراستهم ويصبحوا كخالهم سالم فتخرج الأول ليصبح ضابطاً في الجيش العراقي ثم تبعه الثاني ، الثالث ،الرابع، الخامس ليصبحوا جميعاً ضباطاً ، أخذ يفتخر بهم أمام الأقرباء والأصدقاء وهو مسرور لان جميع آماله وطموحاته قد تحققت من خلال أبنائه الخمسة الذين يرى نفسه فيهم .
أخذت زوجته تتكبر عليه رويداً رويداً كيف لا وهي أخت اللواء سالم وأم الضباط الخمسة وأخذت علاقتهم الزوجية تسوء يوماً بعد يوم ولا تمر ساعة من ليل أو نهار بدون شجار بينهما ، مما حدا بأبنائه أن يقوموا بنقل والدتهم إلى مدينة الموصل لتعيش مع أحدهم .
هاهي رحلة العمر قد أوشكت أن تنقضي وهاهي رفيقة العمر تفارقه وهاهم الأبناء يجحدونه ويودعونه بعدما حملوا متاع أمهم وأخواتهم الثلاثة ، وهو ينظر إليهم وقد وقف في باحة الدار الواسعة ولم تعد قدماه تحملانه ولم يستطع أن يحرك يداً أو أن ينطق بكلمة من فمه الذي اعتاد الكلام فيه ، فقال بعد عناء : ياأبنائي إنكم بعملكم هذا ذبحتموني بغير سكين فأسألكم الرحمة أن تُـبقوا لي إحدى بناتي كي ترعاني وتؤنسني في وحدتي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقد كنت لكم نعم الأب ، ولكنهم لم يستجيبوا له ولم يلتفتوا إلى توسلاته ، وساروا نحو السيارات واستعدوا للرحيل اعتصر الألم قلبه واستمطرت العينان الدموع المدرارة ، فما يحلو الفراق بغيرها هي ليست بدموع ، بل هي دماء القلب تنزف فقد ذبح بغير سكين كما قالها ثم رحلوا بعيداً عنه .
وكلما وقف في الدار ورأى الأبواب المغلقة والغرف الفارغة ، أحس بوحشة ورهبة منها ، وكأنها دار أشباح لاحياة فيها ، وكلما تلفت رأى هذا الفناء الواسع في باحتها ، وأحس بالدار كأنها كومة من أحجار ، كأنها تريد أن تأكل أيامه الباقية ، هذه الدار التي كانت عامرة تضج بشباب القرية قبل سنوات وتعمر بالخيرات وتزهو بالأفراح هاهي اليوم تصبح داراً خالية موحشة لا يقف على بابها أحد ، لا أنس فيها ، فأمسى يشعر بطول الساعات الباقية من عمره ، وراح يرقب عقرب الساعة وكأنه لايتحرك ، فيضجر من ساعات الليل الطويلة .
وطالت القطيعة وثقلت عليه الوحدة فأخذ أهل القرية بالكلام عن أحواله ونُـقلت معاناته لأبنائه ، فقاموا بتزويجه بزوجة ثانية كي تكف عنهم ألسنة أهل القرية التي كالتهم كثيراً، إلا أن القلق أخذ يسري إلى قلبه وفقد اتزانه ورجاحة عقله بعد أن ابتعد عنه أبناؤه وأصبحوا لا يزورونه إلا في المناسبات ، ولا يمكثون عنده إلا نزراً يسيراً ، فأخذ يتحرى عنهم من خلال أصدقائهم , ليطمئن على أحوالهم وليتعرف على أخبارهم ولعلهم ينقلون شوقه إليهم والفراغ الهائل الذي يعانيه بغيابهم .
يالها من حياة يعانيها ( الحاج صباح ) بعد كل هذا الصبر والجهد والعمل من أجل أولئك الأبناء ، تخلوا عنه في لحظات لا لشيء إلا لعدم انسجامهم الفكري معه ، وعدم رضاهم بما يقوله في بعض المجالس ، واستوطنوا مدينة الموصل وتركوه في داره الطينية الموحشة التي لم يستطع العيش فيها لأنها تحوي ذكرياته الماضية فكلما استغرق في نومه يشعر كأن أحدهم يناديه( بابا ) فيستيقظ من نومه ليجيب على هذا النداء مهرولاً نحو باب الغرفة ليقوم بفتحه فلا يرى أحدا في الدار .
اضطر أخيراً أن ينتقل إلى دار شقيقه حتى يكمل بناء داره الجديدة خارج القرية لعله ينسى أو يتناسى تلك الأيام الجميلة وتلك الأحلام التي ضاعت سدى في تربية الأبناء .
لا يهيج النفس ويثيرها مثل نبش الماضي وذكرياته الجميلة والحزينة ، وقف ( الحاج صباح ) بقامته القصيرة الهزيلة والوجه الشاحب والعينين الغائرتين ،والظهر المنحني إلى شقه الأيسر ، يحمل سيكارته بيده ، وهو يثرثر بكلام اعتاد الناس سماعه منه في كل يوم في مجمع القرية ، يقص عليهم ولادته وكيف تنكر أبناؤه له ، ويشكو ظلم الحياة له وقسوتها عليه ، رجل كان ولا زال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يقول إلا الحق ، يتصدى لكل من ينحرف عن جادة الصواب ولا يأبه بكل الانتقادات التي توجه إليه .
ولد في بيت فقير لأب وأمّ وعدد من الأبناء والبنات ، دخل الدراسة الابتدائية فتفوق فيها كثيراً , ولما أصبح في الدراسة المتوسطة , توفي أبوه ولم يستطيع إكمال دراسته لكونه أصبح المعيل لهذه الأسرة , فأخذ دور والده في الأرض وأخذ يزرع الأرض ويرعي أبقاره , التحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية ، فلما تسرح منها عمل سائقاً في مديرية الزراعة ، وتزوج من أخت الحاج سالم الضابط في الجيش العراقي ، وأصبح معيلاً لزوجته وأمه وثلاثة من الإخوة والأخوات , كثر خيره وتحسنت أحواله المعاشية ، إذ كان يتقاضى راتبا من عمله في دائرة الزراعة فضلاً عمّا تدره أرضه الزراعية من غلال ، وبقي هاجس إكمال دراسته في خاطره ويعتصر قلبه الألم كلما رأى شخصاً بوظيفة مرموقة ، لأنه كان يطمح أن يكون مدرساً في مدرسة القرية , ولكن هذا الطموح اندثر لفقره , وفي بعض الأحيان يقف أمام جامعة الموصل عند زيارته لمدينة الموصل ، وينظر إلى طلابها وهم يخرجون منها ويتألم برغم انه تجاوز الأربعين سنة والخمسين والستين ، فلما أنجب كان يعلم ولده الأول قبل أن يدخل المدرسة ويقول لزوجته : إذا أكمل الولد البِكْر هذا المدرسة فالبقية سائرون خلفه , لذا يجب علينا أن نهتم به كثيراً ولا سيما دراسته وأخذ يشرف على تدريسه اليومي ويراقب جدول الامتحانات الشهرية ولما أصبح في الدراسة المتوسطة كان يوصله بسيارته إلى المدرسة , حتى أكملها وتبعه الثاني والثالث والرابع والخامس , وبدأ يحث أبنائه على التعليم ليكملوا دراستهم ويصبحوا كخالهم سالم فتخرج الأول ليصبح ضابطاً في الجيش العراقي ثم تبعه الثاني ، الثالث ،الرابع، الخامس ليصبحوا جميعاً ضباطاً ، أخذ يفتخر بهم أمام الأقرباء والأصدقاء وهو مسرور لان جميع آماله وطموحاته قد تحققت من خلال أبنائه الخمسة الذين يرى نفسه فيهم .
أخذت زوجته تتكبر عليه رويداً رويداً كيف لا وهي أخت اللواء سالم وأم الضباط الخمسة وأخذت علاقتهم الزوجية تسوء يوماً بعد يوم ولا تمر ساعة من ليل أو نهار بدون شجار بينهما ، مما حدا بأبنائه أن يقوموا بنقل والدتهم إلى مدينة الموصل لتعيش مع أحدهم .
هاهي رحلة العمر قد أوشكت أن تنقضي وهاهي رفيقة العمر تفارقه وهاهم الأبناء يجحدونه ويودعونه بعدما حملوا متاع أمهم وأخواتهم الثلاثة ، وهو ينظر إليهم وقد وقف في باحة الدار الواسعة ولم تعد قدماه تحملانه ولم يستطع أن يحرك يداً أو أن ينطق بكلمة من فمه الذي اعتاد الكلام فيه ، فقال بعد عناء : ياأبنائي إنكم بعملكم هذا ذبحتموني بغير سكين فأسألكم الرحمة أن تُـبقوا لي إحدى بناتي كي ترعاني وتؤنسني في وحدتي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقد كنت لكم نعم الأب ، ولكنهم لم يستجيبوا له ولم يلتفتوا إلى توسلاته ، وساروا نحو السيارات واستعدوا للرحيل اعتصر الألم قلبه واستمطرت العينان الدموع المدرارة ، فما يحلو الفراق بغيرها هي ليست بدموع ، بل هي دماء القلب تنزف فقد ذبح بغير سكين كما قالها ثم رحلوا بعيداً عنه .
وكلما وقف في الدار ورأى الأبواب المغلقة والغرف الفارغة ، أحس بوحشة ورهبة منها ، وكأنها دار أشباح لاحياة فيها ، وكلما تلفت رأى هذا الفناء الواسع في باحتها ، وأحس بالدار كأنها كومة من أحجار ، كأنها تريد أن تأكل أيامه الباقية ، هذه الدار التي كانت عامرة تضج بشباب القرية قبل سنوات وتعمر بالخيرات وتزهو بالأفراح هاهي اليوم تصبح داراً خالية موحشة لا يقف على بابها أحد ، لا أنس فيها ، فأمسى يشعر بطول الساعات الباقية من عمره ، وراح يرقب عقرب الساعة وكأنه لايتحرك ، فيضجر من ساعات الليل الطويلة .
وطالت القطيعة وثقلت عليه الوحدة فأخذ أهل القرية بالكلام عن أحواله ونُـقلت معاناته لأبنائه ، فقاموا بتزويجه بزوجة ثانية كي تكف عنهم ألسنة أهل القرية التي كالتهم كثيراً، إلا أن القلق أخذ يسري إلى قلبه وفقد اتزانه ورجاحة عقله بعد أن ابتعد عنه أبناؤه وأصبحوا لا يزورونه إلا في المناسبات ، ولا يمكثون عنده إلا نزراً يسيراً ، فأخذ يتحرى عنهم من خلال أصدقائهم , ليطمئن على أحوالهم وليتعرف على أخبارهم ولعلهم ينقلون شوقه إليهم والفراغ الهائل الذي يعانيه بغيابهم .
يالها من حياة يعانيها ( الحاج صباح ) بعد كل هذا الصبر والجهد والعمل من أجل أولئك الأبناء ، تخلوا عنه في لحظات لا لشيء إلا لعدم انسجامهم الفكري معه ، وعدم رضاهم بما يقوله في بعض المجالس ، واستوطنوا مدينة الموصل وتركوه في داره الطينية الموحشة التي لم يستطع العيش فيها لأنها تحوي ذكرياته الماضية فكلما استغرق في نومه يشعر كأن أحدهم يناديه( بابا ) فيستيقظ من نومه ليجيب على هذا النداء مهرولاً نحو باب الغرفة ليقوم بفتحه فلا يرى أحدا في الدار .
اضطر أخيراً أن ينتقل إلى دار شقيقه حتى يكمل بناء داره الجديدة خارج القرية لعله ينسى أو يتناسى تلك الأيام الجميلة وتلك الأحلام التي ضاعت سدى في تربية الأبناء .