الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإن دعاة الإسلام في الآونة الأخيرة تعرضوا لهجمة شرسة من أعداء الإسلام ، وتنكر البعض من أبنائهم لهم بعد أن وقفوا طويلاً ،وتصدوا للروح القومية ، وللفكر الاشتراكي وللأحزاب الشيوعية اليسارية التي أرادت هدم القيم الإسلامية في مجتمعاتنا المسلمة ، فوقفوا بوجه هذه الموجة العاتية التي كانت تعبث بالأمة من انحلال خلقي ليس له مثيل من قبل ، وكان أشد ما يكون من هذه الهجمة هي في بداية الخمسينات من القرن الماضي واتخذ الانحلال الخلقي والإباحية صوراً متعددة فظهرت كتب ، وجرائد ، ومجلات تضخ بهذه السموم وتدعو المسلمين إلى التحلل في الأخلاق ، والآراء ، والأفكار باسم التحرر العقلي ، وباسم التحرر الفكري من العادات العربية الإسلامية مدعية أن في هذا كبح لحرية الفرد والمجتمع معاً .
فوقف هؤلاء الرجال ، ونافحوا عن بيضة الدين وحملوا راية الإسلام خفاقة عالية ، وتعرضوا من أجل ذلك إلى أشرس هجمت عرفها التاريخ الحديث ، متهمة إياهم بأبشع التهم فأودع البعض منهم السجون ، وتعرض البعض منهم للقتل اغتيالاً أو إعداماً بمحاكمة صورية زائفة ونفي البعض الآخر خارج الوطن وعاش مغترباً بعيداً حتى فارق الحياة .
ولازالت هذه الهجمة قائمة إلى وقتنا هذا ، ومن أجل ذلك كتبت هذه الأسطر مبيناً ، وموضحاً فضل أولئك الرجال الأعلام لمن جاء من بعدهم من أبناء الإسلام ، إن صاحب السابق في الفضل لايدنيه من جاء بعده في الأجر ، ويغفر ما لايغفر لغيره .
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على من لانبي بعده .
جاسم عبد شلال
15/5/2011م
قال بعض الصالحين : سابق العناية ، لا يؤثر فيه حدوث الجناية ، ولا يحط عن رتبة الولاية ، مخالفة أدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة لم تخرجه من حظيرة القدس ، ولم تسلبه رتبة الخلافة ، بل أجزل الله له في العطية ( )فقال : ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ) فذنبه ما أزال عنه هذه التشريفات افترى انه يخرجه عن رحمة الرحمن وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين كيف تخرجه من رتبة الولاية لذنب واحد ولو كان كل من يذنب يخرج من رتبة الولاية لما بقى لله تعالى أولياء على الأرض لان كل بني آدم خطاء ، فالمؤمن له صحبه مع شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله تكون شافعة له .
انظر إلى الحجاج انه أمر بقتل رجل فقال : لا تقتلني حتى تأخذ بيدي وتمشي معي ، فأجابه إليه فقال الرجل : بحرمة صحبتي معك في هذه الساعة أن لاتقتلني ، فعفى عنه فهاهنا وقعت للمؤمن صحبة مع شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله ، ثم ففي هذه الشهادة نرجو الله أن يغفر له . ووجد المؤمن بهذه الشهادة أبوة إبراهيم قوله تعالى ملة أبيكم إبراهيم ( ) وأمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهاتكم ( ) وأخوة المؤمنين إنما المؤمنون إخوة ( ).
واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ( ) واستغفار المؤمنين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( ) واستغفار الملائكة ويستغفرون للذين امنوا ( )
وشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي _ ومشاركة الله سبحانه وتعالى في الاسم فالله جل في علاه أحد أسمائه الحسنى المؤمن والمؤمن اسمه المؤمن .
فالمؤمن إن كان من أصحاب السبق إلى الإسلام من الدعاة إليه ، ومن حاملي راية الإسلام ، والمدافعين عنه فإن له من الأجر ماله ، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح :( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ )( ).
إذا كان هذا أجر العابد في الهرج فكيف يكون أجر الداعي إلى الله الحامل راية الإسلام كم يعدل ذلك عند الله ... هل يستوي مع من قعد في بيته ولم يتمعر وجهه يوماً لنصرة دين الله ، فشتان ما بين الفريقين .
واليكم قاعدة مهمة من قواعد التصور الإسلامي وضعها ابن القيم في كتابه مدارج السالكين حين قال : فإنه يُعْفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره، وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية - قدس الله روحه - يقول: أنظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رَمَى الألواحَ التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحيةٍ نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعُهُ عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر- وانظر إلى يونس بن مَتّى صلوات الله وسلامه عليه حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى.
ولذلك قيل فرقٌ بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
وإذَا الحبيبُ أتى بِذَنْبٍ وَاحدٍ
جَاءتْ مَحَاسِنُه بأَلْفِ شَفِيعِ( )
ففي هذا الفهم أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه إن صاحب الإحسان العظيم في الإسلام لا يدانيه من جاء بعده ، ولا من هو أقل مرتبة منه , فالرسول صلى الله عليه وسلم قال كلاماً بليغاً في فضل عثمان رضي الله عنه حين جهز جيش العسرة. حيث جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف درهم في كمه فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين ( ).
هكذا فهم الصحابة وعلى هذا ساروا في الدعوة إلى الله ولنصغ الآن لربيعة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها ثم ندم عليها وقال لي ياربيعة رد عليَّ مثلها حتى تكون قصاصاً .. قلت: لا افعل ، فقال لي : لتأخذن بحقك مني أو لأشكونك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قلت : ما أنا بفاعل ، فذهب عني منطلقاً إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) وانطلقت وراءه ، فجاء ناس من أسلم فقالوا : يرحم الله أبابكر في أي شيء يستعدي عليك الرسول وهو الذي قال لك ما قال فقلت لهم : اسكتوا هذا أبو بكر هذا الذي قال الله عنه ثاني اثنين إذ هما في الغار ( ) إياكم لايلتفت فيراكم تنصرونني عليه فيغضب ، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة ، فانطلق أبو بكر حتى أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فحدثه بما كان فرفع إلي الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه وقال يا ربيعة ما لك والصديق ؟ قلت : يا رسول الله انه قال لي كلمة كرهها ثم طلب إليَّ أن أردها عليه لتكون قصاصاً فأبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنت يا ربيعة لا تردها ، ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر فقلت غفر الله لك يا أبا بكر (( فولى أبو بكر وهو يبكي))( ).
وهناك قصة مشابهه مع سيدنا عمر رضي الله عنه حيث جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال يارسول الله كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه نادماً وسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : يغفر الله لك ياأبا بكر ((ثلاثاً)) ، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : والله يا رسول الله أنا كنت أظلم ( مرتين) .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي ( مرتين ) فما أوذي بعدها ( ).
لماذا انتصر له الرسول صلى الله عليه وسلم لان أبا بكر قام مقامات عظيمة في الإسلام فلذلك غفر له مالم يغفر لغيره .
وعن أبي سعيد قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أحد من أصحابي فان أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ماادرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ( ).
ومرة الأيام وتشاجر عبد الرحمن بن عوف مع عبد الله بن رواحة فقال خالد يارسول الله لما لا تنتصر لعبد الرحمن فقال أولئك أهل بدر( ). فأهل بدر أهل سابقة وفضل لا يدانيهم من جاء بعدهم .
وإليكم حادثة وقعت لواحد منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يتجهزوا وأعلمهم انه سائر إلى مكة وأوصاهم بالجد والبدار وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ، واستمع المسلمون لأمر نبيهم فمضوا يعبئون قواهم للقاء المنتظر ، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت، ووقع في هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب من رجل من أهل السابقة في جهاد المشركين تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم منه أن محمداً سائراً إليهم بجيشه .
وقد رأيت أن المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو . أليس مما يقرب بجاحتهم ويخفف خسائرهم ؟ ولعله يدفع قريشاً إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثاً .
وما معنى الكتابة إليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله والاستكثار من أسباب المقاومة ؟.
عن سيدنا علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة (امرأة) ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة (المرأة) فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب . فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذا فيه من ( حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ـ كنت حليفاً لهم ـ ولم أكن من صميمها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم ، قال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق قال إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ... ؟ .
ونزل قول الله تبارك وتعالى ياأيها الذين امنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ( ).
إن حاطباً خرج عن جادة الصواب بهذا العمل ، وما كان له أن يواد المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران ، وتظاهروا على العدوان وصنعوا بالمسلمين ما حاطب أعلم به من غيره.
لكن الإنسان الكبير (أي كبير العمل ) تعرض له فترات يصغر فيها والله أبر بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التي تعرو نورهم فيخبو وسعيهم فيكبو.
وقد استكشف النبي صلى الله عليه وسلم خبيئة حاطب فعرف أنه لم يكذبه في اعتذاره فهذه خيانة عظمة من حاطب فشفع له ماضيه الكريم فجبرت عثرته .... وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يذكروا الرجل بأفضل مافيه وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام إلا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حيناً بعد أن أصابوا طويلاً ( ).
خلاصة القول إن الذين كانت لهم يد السبق في الدعوة إلى الله وتحملوا ما تحملوا من العناء في سبيل هذا الدعوة وضحوا بالنفس والمال من أجل نصرة الله في ساعة تخاذل عنه جميع البشر وآثروا السلامة وانساقوا خلق الملذات والشهوات ، أما هؤلاء فكان همهم الأول هو إعلاء كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله ، أمام رايات الإلحاد والكفر والفسق ، فهل يستوي هؤلاء وهؤلاء فإذ لم يكن الصحابة رضي الله عنهم في ميزان واحد فالذين آمنوا وسبقوا إلى الإيمان أعلى من غيرهم لان الأولين السابقون تحملوا من الأذى في المال وفي النفس مالم يقع على الذين من بعدهم ، فلذلك كانت منزلتهم أعلى واشرف لأنهم أنفقوا في حال المكره ، والعسر ، والشدة ، وتكالب الأعداء عليهم ، فأول مسيرة الإسلام كانت امرأة ورجل وغلام وعبد ، والذين جاءوا من بعدهم أنفقوا في حال المنشط واليسر والرخاء ودولة الإسلام قائمة .
فالمؤمنون غير متساوين في الدرجة عند الله لتفاضلهم في أعمال البر التي يعملونها قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ( ). المعنى لا يستوي من انفق قبل فتح مكة وقاتل ومن أنفق بعد هذا الفتح وقاتل ، فأولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد الفتح ، وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات ( ).
وفي هذا المجال وصف الاستاذ محمد احمد الراشد السابقين في الدعوة في كتابه منهجية التربية الدعوية ، بقوله : ( سبقني سنتين فصار صاحب عقلين.
ثم بين أهمية توالي الأجيال ، وان كل جيل يأخذ من الجيل الذي سبقه، وان كل جيل دفع العجلة قليلا وسيّرها إلى الأمام ، وكذا اجتماع علوم الأمم ورفد بعضها بعضا ، والاقتباس من الغير ، كما فعلت أوربا حين درست علوم المسلمين في الأندلس .
هذا ... أو تهمة التنكر للسلف ، وبخس حق السابق ، وتتجلى هذه الصلة السلفية عندنا تماماً حين نستعرض معالم تطور الدعوة ،فنكشف أن موعظة فاه الحسن البصري ، أو عمر بن عبدالعزيز ، مازالت تشكل في تربيتنا ركنا مهما نطيل شرحه ، وان طريقة الثوري أو الفضيل قد استحالت إلى مادة في منهجية التربية الدعوية ، مرورا بأحمد وأصحابه ، وأرهاط المجاهدين مع عماد وصلاح الدين ، ولبثا مع ابن تيمية وابن القيم ، وانتسابا لمحمد الفاتح ثم شامل ، وإذعاناً لمحمد بن عبدالوهاب في إيجازه العقيدي المتكامل ، حتى استلمها البنا باليمين ، وحصل الانفجار العظيم .
هذا الاحترام للسلف القديم والحديث أصل أصيل في منهجية التربية الدعوية ، ليس نأتيه كخلق ووفاء وتبرك فقط وكل ذلك حق وواجب ، ولكن نأتيه مأتى التفقه والتلمذة والاعتراف بالسبق واعتقاد أن الله تعالى وهبهم صدق النوايا ونقاء السلوك ،فبورك فركهم لعقولهم ، وانبثقت الحكمة ثرة من بين أصابعهم ، ليس الأول منهم والأوسط فحسب ، بل حتى الآخر الذي عاش وأدركناه يوم كان للحياة بقية من جمال اندرس في أيامنا الحاضرة مع استيلاء صخب التمدن واختلاط الصيحات وفساد الأذواق وتلوث البيئة واسترواح الثقات بالترهات.
وقد كان توريث الفكر والمفاهيم والوعي يجري في سلاسة بحمد الله ومازال ، رغم هذه القبائح الغازية ، واغلب جيل الصحوة الإسلامية الحاضرة قد اكتشف بسرعة تمهيدات الأجيال السابقة لطريقه ، وولد هذا الجيل ثريا ، ولم تضطره الأيام إلى عصامية ، حتى جاءت أيام الأفغان وبشاور ، فبرزت بدع التعالي والاستغناء والتنكر والتمرد والذاتية والإدلال والادعاء عند نفر أطلق الواحد منهم طلقتين وبات في العراء ليلتين ، فصار يعتقد انه قد اجتاز القنطرة ، وانه ارفع من الجلوس بين يدي مجرب ، وانه قائد تام الأهلية والصفات ، وما كان كل ذلك إلا لان هؤلاء الشباب ـ رغم صدق توجههم وعمران جانب الإخلاص فيهم ـ لم يمروا بالتسلسل التربوي الذي تتيحه الحياة الدعوية ، ولم يتدرجوا في حيازة المعاني وفق منهجية على أساتذة قد علمتهم المعاناة من قبل الكثير من دروس الحياة ووضعتهم في سير موزون يزيده فقه الدعوة وإفتاء القدماء اتزاناً.
البدعة عند نفر ، والسواد الأعظم تجمله البراءة والآداب ، لكن من شان النشاز أن يلفت النظر إليه ، مثل نقطة سوداء في محيط ابيض ، لذلك يجب أن تحتوي منهجية التربية الدعوية مبدأ الانتساب للسلف والوفاء للأجيال المتعاقبة والتلمذة لمن سبق سنتين وعانى فاطلع ، إذ ليست مكابدة التفاصيل اليومية لعمل الدعوة اليومي السلمي في صراعها مع الأفكار المنحرفة والجاهلية والجاهلين بأقل شانا وأجراً ومكانة من مكابدة العدو في ساحات الجهاد ، ولسنا ننكر فضل شباب جاهد ، أو نتقدم بين يدي الله فنزعم مزاعم تقلل شانهم ، بل الله يتقبل الصالحين، إنما ننكر تعاليهم على التدرج ، وعلى قوم يرون للجهاد شروطا تسبقه ( ).
الخاتمة
فبالإخوة والإيثار والفتوة والصفح عنهم ، والقيام معهم بشرط الخدمة لا يرى لنفسه على أحد حقاً ، ولا يطالب أحداً بحق ، ويرى لكل أحد عليه حقاً ، ولا يقصر في القيام بحقهم, ومن الصحبة معهم إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون ويفعلون ، ويكون أبداً معهم على نفسه ، ويتأول لهم ويعتذر عنهم ، ويترك مخالفتهم ، ومنافرتهم ، ومجادلتهم ، ومماراتهم ، ومشاددتهم ، ويتعامى عن عيوبهم فإن خالفه أحد منهم في شيء سلم له ما يقول في الظاهر ، وان كان عنده الأمر بخلاف ما يقوله ، وينبغي إن يحفظ أبداً قلوب الإخوان ويجتنب فعل مايكرهونه ، وان علم فيه صلاحهم فلا ينطوي لأحد منهم على حقد ، وان خامر قلب واحد منهم كراهة ، تخلق معه بشيء حتى يزول ذلك ، فإن لم يزل زاد في الإحسان ، والتخلق حتى يزول،وان وجد في قلبه من أحد منهم استيحاشاً وأذية لغيبة أو غيرها فلا يظهر ذلك في نفسه ويرى من نفسه خلاف ذلك( )، وقال عليه الصلاة والسلام ( المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) ( ).
ومن أخلاق الأولين رضي الله عنهم كثرة أدبهم مع من علمهم سورة أو آية من القرآن وهم أطفال فلم يزل أحدهم يتأدب مع من علمهم السورة أو الآية أو الباب من العلم حتى أنه لا يقدر أن يمر عليه راكباً ولا يتزوج له مطلقة ولو صار من مشايخ الإسلام ( ).
وقد كان مالك بن دينار لايطرد الكلب إذا جلس بحذائه ويقول : هو خير من قرين السوء ( وكفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحاً ويقع في الصالحين) ( ).
وعن أبي سعيد بن أحمد بن عيسى قال : صحبت الفقراء ثلاثين سنة ، ولم يجر بيني وبينهم كلام قط تأذوا به , قيل له : كيف ذلك ؟ قال : لأني كنت معهم على نفسي أبداً , وإذا دخلت ، أدخلت عليهم سروراً ورفقاً ، واستعملت خلقاً ، هدية وأدباً وسبباً من الأسباب, فلا ترى بذلك لك عليهم فضلاً بل تتقلد منهم منة في قبولهم ذلك منك ( ).
المصادر والمراجع
1. تفسير البحر المحيط ، العلامة أبو حيان الأندلسى، دار الفكر
2. تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون التأويل في وجوه التأويل ، للإمام أبي القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري ، تحقيق خليل مأمون شيحا ، دار المعرفة بيروت لبنان ، الطبعة الثالثة ، 1430هـ ـ 2009.
3. تنبيه المغترين ، الشيخ عبدالوهاب الشعراني ، علق عليه عبدالجليل العطا ، دار البشائر ، الطبعة الأولى .
4. الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، دار الجيل بيروت ، دار الأفاق الجديدة ـ بيروت.
5. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة.
6. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، محمد بن فتوح الحميدي، تحقيق : د. علي حسين البواب ، دار ابن حزم - لبنان/ بيروت - الطبعة: الثانية 1423هـ - 2002م
7. الغنية لطالبي طريق الحق والدين ، الشيخ عبدالقادر الكيلاني الحسيني ، (ت651هـ ) ، اعتنى به الدكتور علي أبو الخير ، دار الخير ـ بيروت ، الطبعة الأولى ، 1426هـ ـ 2005م.
8. فقه السيرة ، محمد الغزالي ، دار الدعوة الإسكندرية ، مصر ، الطبعة السادسة ، 1421هـ ـ 2000م.
9. مدارج السالكين، الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية ، صححه وعلق عليه : محمد حامد الفقي ، ومحمود النادي ، دار ابن الهيثم ـ القاهرة ، 2004م .
10. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة.
11. منهجية التربية الدعوية ، محمد أحمد الراشد ، دار المحراب للنشر والتوزيع فان كوفر /كندا، مطبعة أنوار دجلة ، بغداد ،الطبعة الثالثة، 1424هـ ـ2003م.
12. الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية ، الشيخ يوسف خطار محمد ، دمشق الطبعة الرابعة ، 1423هـ ـ2002م.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإن دعاة الإسلام في الآونة الأخيرة تعرضوا لهجمة شرسة من أعداء الإسلام ، وتنكر البعض من أبنائهم لهم بعد أن وقفوا طويلاً ،وتصدوا للروح القومية ، وللفكر الاشتراكي وللأحزاب الشيوعية اليسارية التي أرادت هدم القيم الإسلامية في مجتمعاتنا المسلمة ، فوقفوا بوجه هذه الموجة العاتية التي كانت تعبث بالأمة من انحلال خلقي ليس له مثيل من قبل ، وكان أشد ما يكون من هذه الهجمة هي في بداية الخمسينات من القرن الماضي واتخذ الانحلال الخلقي والإباحية صوراً متعددة فظهرت كتب ، وجرائد ، ومجلات تضخ بهذه السموم وتدعو المسلمين إلى التحلل في الأخلاق ، والآراء ، والأفكار باسم التحرر العقلي ، وباسم التحرر الفكري من العادات العربية الإسلامية مدعية أن في هذا كبح لحرية الفرد والمجتمع معاً .
فوقف هؤلاء الرجال ، ونافحوا عن بيضة الدين وحملوا راية الإسلام خفاقة عالية ، وتعرضوا من أجل ذلك إلى أشرس هجمت عرفها التاريخ الحديث ، متهمة إياهم بأبشع التهم فأودع البعض منهم السجون ، وتعرض البعض منهم للقتل اغتيالاً أو إعداماً بمحاكمة صورية زائفة ونفي البعض الآخر خارج الوطن وعاش مغترباً بعيداً حتى فارق الحياة .
ولازالت هذه الهجمة قائمة إلى وقتنا هذا ، ومن أجل ذلك كتبت هذه الأسطر مبيناً ، وموضحاً فضل أولئك الرجال الأعلام لمن جاء من بعدهم من أبناء الإسلام ، إن صاحب السابق في الفضل لايدنيه من جاء بعده في الأجر ، ويغفر ما لايغفر لغيره .
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على من لانبي بعده .
جاسم عبد شلال
15/5/2011م
قال بعض الصالحين : سابق العناية ، لا يؤثر فيه حدوث الجناية ، ولا يحط عن رتبة الولاية ، مخالفة أدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة لم تخرجه من حظيرة القدس ، ولم تسلبه رتبة الخلافة ، بل أجزل الله له في العطية ( )فقال : ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ) فذنبه ما أزال عنه هذه التشريفات افترى انه يخرجه عن رحمة الرحمن وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين كيف تخرجه من رتبة الولاية لذنب واحد ولو كان كل من يذنب يخرج من رتبة الولاية لما بقى لله تعالى أولياء على الأرض لان كل بني آدم خطاء ، فالمؤمن له صحبه مع شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله تكون شافعة له .
انظر إلى الحجاج انه أمر بقتل رجل فقال : لا تقتلني حتى تأخذ بيدي وتمشي معي ، فأجابه إليه فقال الرجل : بحرمة صحبتي معك في هذه الساعة أن لاتقتلني ، فعفى عنه فهاهنا وقعت للمؤمن صحبة مع شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله ، ثم ففي هذه الشهادة نرجو الله أن يغفر له . ووجد المؤمن بهذه الشهادة أبوة إبراهيم قوله تعالى ملة أبيكم إبراهيم ( ) وأمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهاتكم ( ) وأخوة المؤمنين إنما المؤمنون إخوة ( ).
واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ( ) واستغفار المؤمنين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( ) واستغفار الملائكة ويستغفرون للذين امنوا ( )
وشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي _ ومشاركة الله سبحانه وتعالى في الاسم فالله جل في علاه أحد أسمائه الحسنى المؤمن والمؤمن اسمه المؤمن .
فالمؤمن إن كان من أصحاب السبق إلى الإسلام من الدعاة إليه ، ومن حاملي راية الإسلام ، والمدافعين عنه فإن له من الأجر ماله ، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح :( العبادة في الهرج كهجرة إليَّ )( ).
إذا كان هذا أجر العابد في الهرج فكيف يكون أجر الداعي إلى الله الحامل راية الإسلام كم يعدل ذلك عند الله ... هل يستوي مع من قعد في بيته ولم يتمعر وجهه يوماً لنصرة دين الله ، فشتان ما بين الفريقين .
واليكم قاعدة مهمة من قواعد التصور الإسلامي وضعها ابن القيم في كتابه مدارج السالكين حين قال : فإنه يُعْفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره، وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية - قدس الله روحه - يقول: أنظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رَمَى الألواحَ التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحيةٍ نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعُهُ عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر- وانظر إلى يونس بن مَتّى صلوات الله وسلامه عليه حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى.
ولذلك قيل فرقٌ بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
وإذَا الحبيبُ أتى بِذَنْبٍ وَاحدٍ
جَاءتْ مَحَاسِنُه بأَلْفِ شَفِيعِ( )
ففي هذا الفهم أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه إن صاحب الإحسان العظيم في الإسلام لا يدانيه من جاء بعده ، ولا من هو أقل مرتبة منه , فالرسول صلى الله عليه وسلم قال كلاماً بليغاً في فضل عثمان رضي الله عنه حين جهز جيش العسرة. حيث جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف درهم في كمه فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين ( ).
هكذا فهم الصحابة وعلى هذا ساروا في الدعوة إلى الله ولنصغ الآن لربيعة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها ثم ندم عليها وقال لي ياربيعة رد عليَّ مثلها حتى تكون قصاصاً .. قلت: لا افعل ، فقال لي : لتأخذن بحقك مني أو لأشكونك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قلت : ما أنا بفاعل ، فذهب عني منطلقاً إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) وانطلقت وراءه ، فجاء ناس من أسلم فقالوا : يرحم الله أبابكر في أي شيء يستعدي عليك الرسول وهو الذي قال لك ما قال فقلت لهم : اسكتوا هذا أبو بكر هذا الذي قال الله عنه ثاني اثنين إذ هما في الغار ( ) إياكم لايلتفت فيراكم تنصرونني عليه فيغضب ، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة ، فانطلق أبو بكر حتى أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فحدثه بما كان فرفع إلي الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه وقال يا ربيعة ما لك والصديق ؟ قلت : يا رسول الله انه قال لي كلمة كرهها ثم طلب إليَّ أن أردها عليه لتكون قصاصاً فأبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنت يا ربيعة لا تردها ، ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر فقلت غفر الله لك يا أبا بكر (( فولى أبو بكر وهو يبكي))( ).
وهناك قصة مشابهه مع سيدنا عمر رضي الله عنه حيث جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال يارسول الله كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه نادماً وسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : يغفر الله لك ياأبا بكر ((ثلاثاً)) ، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : والله يا رسول الله أنا كنت أظلم ( مرتين) .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي ( مرتين ) فما أوذي بعدها ( ).
لماذا انتصر له الرسول صلى الله عليه وسلم لان أبا بكر قام مقامات عظيمة في الإسلام فلذلك غفر له مالم يغفر لغيره .
وعن أبي سعيد قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أحد من أصحابي فان أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ماادرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ( ).
ومرة الأيام وتشاجر عبد الرحمن بن عوف مع عبد الله بن رواحة فقال خالد يارسول الله لما لا تنتصر لعبد الرحمن فقال أولئك أهل بدر( ). فأهل بدر أهل سابقة وفضل لا يدانيهم من جاء بعدهم .
وإليكم حادثة وقعت لواحد منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يتجهزوا وأعلمهم انه سائر إلى مكة وأوصاهم بالجد والبدار وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ، واستمع المسلمون لأمر نبيهم فمضوا يعبئون قواهم للقاء المنتظر ، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت، ووقع في هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب من رجل من أهل السابقة في جهاد المشركين تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم منه أن محمداً سائراً إليهم بجيشه .
وقد رأيت أن المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو . أليس مما يقرب بجاحتهم ويخفف خسائرهم ؟ ولعله يدفع قريشاً إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثاً .
وما معنى الكتابة إليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله والاستكثار من أسباب المقاومة ؟.
عن سيدنا علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة (امرأة) ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة (المرأة) فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب . فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذا فيه من ( حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ـ كنت حليفاً لهم ـ ولم أكن من صميمها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم ، قال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق قال إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ... ؟ .
ونزل قول الله تبارك وتعالى ياأيها الذين امنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ( ).
إن حاطباً خرج عن جادة الصواب بهذا العمل ، وما كان له أن يواد المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران ، وتظاهروا على العدوان وصنعوا بالمسلمين ما حاطب أعلم به من غيره.
لكن الإنسان الكبير (أي كبير العمل ) تعرض له فترات يصغر فيها والله أبر بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التي تعرو نورهم فيخبو وسعيهم فيكبو.
وقد استكشف النبي صلى الله عليه وسلم خبيئة حاطب فعرف أنه لم يكذبه في اعتذاره فهذه خيانة عظمة من حاطب فشفع له ماضيه الكريم فجبرت عثرته .... وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يذكروا الرجل بأفضل مافيه وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام إلا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حيناً بعد أن أصابوا طويلاً ( ).
خلاصة القول إن الذين كانت لهم يد السبق في الدعوة إلى الله وتحملوا ما تحملوا من العناء في سبيل هذا الدعوة وضحوا بالنفس والمال من أجل نصرة الله في ساعة تخاذل عنه جميع البشر وآثروا السلامة وانساقوا خلق الملذات والشهوات ، أما هؤلاء فكان همهم الأول هو إعلاء كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله ، أمام رايات الإلحاد والكفر والفسق ، فهل يستوي هؤلاء وهؤلاء فإذ لم يكن الصحابة رضي الله عنهم في ميزان واحد فالذين آمنوا وسبقوا إلى الإيمان أعلى من غيرهم لان الأولين السابقون تحملوا من الأذى في المال وفي النفس مالم يقع على الذين من بعدهم ، فلذلك كانت منزلتهم أعلى واشرف لأنهم أنفقوا في حال المكره ، والعسر ، والشدة ، وتكالب الأعداء عليهم ، فأول مسيرة الإسلام كانت امرأة ورجل وغلام وعبد ، والذين جاءوا من بعدهم أنفقوا في حال المنشط واليسر والرخاء ودولة الإسلام قائمة .
فالمؤمنون غير متساوين في الدرجة عند الله لتفاضلهم في أعمال البر التي يعملونها قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ( ). المعنى لا يستوي من انفق قبل فتح مكة وقاتل ومن أنفق بعد هذا الفتح وقاتل ، فأولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد الفتح ، وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات ( ).
وفي هذا المجال وصف الاستاذ محمد احمد الراشد السابقين في الدعوة في كتابه منهجية التربية الدعوية ، بقوله : ( سبقني سنتين فصار صاحب عقلين.
ثم بين أهمية توالي الأجيال ، وان كل جيل يأخذ من الجيل الذي سبقه، وان كل جيل دفع العجلة قليلا وسيّرها إلى الأمام ، وكذا اجتماع علوم الأمم ورفد بعضها بعضا ، والاقتباس من الغير ، كما فعلت أوربا حين درست علوم المسلمين في الأندلس .
هذا ... أو تهمة التنكر للسلف ، وبخس حق السابق ، وتتجلى هذه الصلة السلفية عندنا تماماً حين نستعرض معالم تطور الدعوة ،فنكشف أن موعظة فاه الحسن البصري ، أو عمر بن عبدالعزيز ، مازالت تشكل في تربيتنا ركنا مهما نطيل شرحه ، وان طريقة الثوري أو الفضيل قد استحالت إلى مادة في منهجية التربية الدعوية ، مرورا بأحمد وأصحابه ، وأرهاط المجاهدين مع عماد وصلاح الدين ، ولبثا مع ابن تيمية وابن القيم ، وانتسابا لمحمد الفاتح ثم شامل ، وإذعاناً لمحمد بن عبدالوهاب في إيجازه العقيدي المتكامل ، حتى استلمها البنا باليمين ، وحصل الانفجار العظيم .
هذا الاحترام للسلف القديم والحديث أصل أصيل في منهجية التربية الدعوية ، ليس نأتيه كخلق ووفاء وتبرك فقط وكل ذلك حق وواجب ، ولكن نأتيه مأتى التفقه والتلمذة والاعتراف بالسبق واعتقاد أن الله تعالى وهبهم صدق النوايا ونقاء السلوك ،فبورك فركهم لعقولهم ، وانبثقت الحكمة ثرة من بين أصابعهم ، ليس الأول منهم والأوسط فحسب ، بل حتى الآخر الذي عاش وأدركناه يوم كان للحياة بقية من جمال اندرس في أيامنا الحاضرة مع استيلاء صخب التمدن واختلاط الصيحات وفساد الأذواق وتلوث البيئة واسترواح الثقات بالترهات.
وقد كان توريث الفكر والمفاهيم والوعي يجري في سلاسة بحمد الله ومازال ، رغم هذه القبائح الغازية ، واغلب جيل الصحوة الإسلامية الحاضرة قد اكتشف بسرعة تمهيدات الأجيال السابقة لطريقه ، وولد هذا الجيل ثريا ، ولم تضطره الأيام إلى عصامية ، حتى جاءت أيام الأفغان وبشاور ، فبرزت بدع التعالي والاستغناء والتنكر والتمرد والذاتية والإدلال والادعاء عند نفر أطلق الواحد منهم طلقتين وبات في العراء ليلتين ، فصار يعتقد انه قد اجتاز القنطرة ، وانه ارفع من الجلوس بين يدي مجرب ، وانه قائد تام الأهلية والصفات ، وما كان كل ذلك إلا لان هؤلاء الشباب ـ رغم صدق توجههم وعمران جانب الإخلاص فيهم ـ لم يمروا بالتسلسل التربوي الذي تتيحه الحياة الدعوية ، ولم يتدرجوا في حيازة المعاني وفق منهجية على أساتذة قد علمتهم المعاناة من قبل الكثير من دروس الحياة ووضعتهم في سير موزون يزيده فقه الدعوة وإفتاء القدماء اتزاناً.
البدعة عند نفر ، والسواد الأعظم تجمله البراءة والآداب ، لكن من شان النشاز أن يلفت النظر إليه ، مثل نقطة سوداء في محيط ابيض ، لذلك يجب أن تحتوي منهجية التربية الدعوية مبدأ الانتساب للسلف والوفاء للأجيال المتعاقبة والتلمذة لمن سبق سنتين وعانى فاطلع ، إذ ليست مكابدة التفاصيل اليومية لعمل الدعوة اليومي السلمي في صراعها مع الأفكار المنحرفة والجاهلية والجاهلين بأقل شانا وأجراً ومكانة من مكابدة العدو في ساحات الجهاد ، ولسنا ننكر فضل شباب جاهد ، أو نتقدم بين يدي الله فنزعم مزاعم تقلل شانهم ، بل الله يتقبل الصالحين، إنما ننكر تعاليهم على التدرج ، وعلى قوم يرون للجهاد شروطا تسبقه ( ).
الخاتمة
فبالإخوة والإيثار والفتوة والصفح عنهم ، والقيام معهم بشرط الخدمة لا يرى لنفسه على أحد حقاً ، ولا يطالب أحداً بحق ، ويرى لكل أحد عليه حقاً ، ولا يقصر في القيام بحقهم, ومن الصحبة معهم إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون ويفعلون ، ويكون أبداً معهم على نفسه ، ويتأول لهم ويعتذر عنهم ، ويترك مخالفتهم ، ومنافرتهم ، ومجادلتهم ، ومماراتهم ، ومشاددتهم ، ويتعامى عن عيوبهم فإن خالفه أحد منهم في شيء سلم له ما يقول في الظاهر ، وان كان عنده الأمر بخلاف ما يقوله ، وينبغي إن يحفظ أبداً قلوب الإخوان ويجتنب فعل مايكرهونه ، وان علم فيه صلاحهم فلا ينطوي لأحد منهم على حقد ، وان خامر قلب واحد منهم كراهة ، تخلق معه بشيء حتى يزول ذلك ، فإن لم يزل زاد في الإحسان ، والتخلق حتى يزول،وان وجد في قلبه من أحد منهم استيحاشاً وأذية لغيبة أو غيرها فلا يظهر ذلك في نفسه ويرى من نفسه خلاف ذلك( )، وقال عليه الصلاة والسلام ( المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) ( ).
ومن أخلاق الأولين رضي الله عنهم كثرة أدبهم مع من علمهم سورة أو آية من القرآن وهم أطفال فلم يزل أحدهم يتأدب مع من علمهم السورة أو الآية أو الباب من العلم حتى أنه لا يقدر أن يمر عليه راكباً ولا يتزوج له مطلقة ولو صار من مشايخ الإسلام ( ).
وقد كان مالك بن دينار لايطرد الكلب إذا جلس بحذائه ويقول : هو خير من قرين السوء ( وكفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحاً ويقع في الصالحين) ( ).
وعن أبي سعيد بن أحمد بن عيسى قال : صحبت الفقراء ثلاثين سنة ، ولم يجر بيني وبينهم كلام قط تأذوا به , قيل له : كيف ذلك ؟ قال : لأني كنت معهم على نفسي أبداً , وإذا دخلت ، أدخلت عليهم سروراً ورفقاً ، واستعملت خلقاً ، هدية وأدباً وسبباً من الأسباب, فلا ترى بذلك لك عليهم فضلاً بل تتقلد منهم منة في قبولهم ذلك منك ( ).
المصادر والمراجع
1. تفسير البحر المحيط ، العلامة أبو حيان الأندلسى، دار الفكر
2. تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون التأويل في وجوه التأويل ، للإمام أبي القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري ، تحقيق خليل مأمون شيحا ، دار المعرفة بيروت لبنان ، الطبعة الثالثة ، 1430هـ ـ 2009.
3. تنبيه المغترين ، الشيخ عبدالوهاب الشعراني ، علق عليه عبدالجليل العطا ، دار البشائر ، الطبعة الأولى .
4. الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، دار الجيل بيروت ، دار الأفاق الجديدة ـ بيروت.
5. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة.
6. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، محمد بن فتوح الحميدي، تحقيق : د. علي حسين البواب ، دار ابن حزم - لبنان/ بيروت - الطبعة: الثانية 1423هـ - 2002م
7. الغنية لطالبي طريق الحق والدين ، الشيخ عبدالقادر الكيلاني الحسيني ، (ت651هـ ) ، اعتنى به الدكتور علي أبو الخير ، دار الخير ـ بيروت ، الطبعة الأولى ، 1426هـ ـ 2005م.
8. فقه السيرة ، محمد الغزالي ، دار الدعوة الإسكندرية ، مصر ، الطبعة السادسة ، 1421هـ ـ 2000م.
9. مدارج السالكين، الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية ، صححه وعلق عليه : محمد حامد الفقي ، ومحمود النادي ، دار ابن الهيثم ـ القاهرة ، 2004م .
10. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة.
11. منهجية التربية الدعوية ، محمد أحمد الراشد ، دار المحراب للنشر والتوزيع فان كوفر /كندا، مطبعة أنوار دجلة ، بغداد ،الطبعة الثالثة، 1424هـ ـ2003م.
12. الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية ، الشيخ يوسف خطار محمد ، دمشق الطبعة الرابعة ، 1423هـ ـ2002م.